فَتوى مُعاصِرة ومُؤصَّلة بخُصوص التّعامل مع العُمْلات المشَفّرة

فَتوى مُعاصِرة ومُؤصَّلة بخُصوص التّعامل مع العُمْلات المشَفّرة

شوان زنكَنة

2022-09-07T07:12:01+00:00

تمهيد

كثُر الكلامُ عن الإتّجار بما يسمّى "العُمْلات المشفرة" ومنها "البيتكوين"، التي أصبحت من الملاذات التي تتّجهُ إليها الكتلةُ النقدية، وذلك للحماية من التضخّم، وجَنْيِ الأرباح، وهي من الملاذات العالية الخُطورة.. وقبل بيان الحكم في التعامل معها، لا بُدَّ من وضْع تصوّرٍ للمسألة ومن ثَمَّ تكْيِيفها تكييفًا شرعيًّا.

تَصوّرُ المسألةِ

لا تُعتَبرُ العمْلاتُ المشفّرة اليوم في المفهوم الاقتصادي نقودًا مُتاوَلة، لعدم اجتماع الصفات الثلاث للنقود فيها، والتي تميّزها عن باقي الأشياء، وهي:

1- القيمةُ الذاتيةُ أو الْمُكتسبَةُ، أي: قيمةٌ موجودة بالخِلْقَةِ، كالنّقود المصنوعة من الذهب والفضة، أو قيمةٌ مكتسَبة، أي: قيمةٌ وقدرةٌ شرائيةٌ مكتسَبةٌ من قوة اقتصاد البلد، كالدولار واليورو والين، فهي أوراقٌ لا قيمة ذاتية فيها، ولكنها اكتسبت قيمتها من قوة اقتصاد البلد.

2- القبولُ العامُّ، وهو أن يقبلَها الناسُ كعملة متداوَلة في الأسواق.

3- الإبراءُ القانوني، وهو ضرورة الإصدار بشكلٍ رسمي من البنوك المركزية في دول العالم.

ولما لم تكن العمْلات المشفّرة، والبيتكوين منها، تحملُ هذه الصفات كلَّها، فهي ليست عمْلات ولا نقود بالمفهوم الاقتصادي، وبالتالي بالمفهوم الشرعي.، ولهذا ينظر الشّرع إليها كسلعةٍ متداوَلة في الأسواق، ولا يجوز اعتبارُها نقودًا والحكمُ عليها بهذه الصفة.

يتِمُّ اليوم تداوُلُ هذه السِّلع: أقصدُ العمْلات المشفّرة، ومنها البيتكوين، في منصات تداوُل الكرتونية، بعضها رسمية، والبعض الآخر غير رسمية، وقد اعترف القليلُ جدا من الدول بهذه العملات لأسباب سياسية، مما تسبّب برفع نسبة المخاطر فيها، كما وقَبِلَ القليلُ جدا من البنوك التعامل بها، أي: استبدالها بعملة الدولار.

التكْيِيفُ الشّرعيُّ

بعد بيانِ تصوّر المسألة بصيغته السليمة، المعروفة والممارَسة عمليًّا في الأسواق، يمكنُ على ضوئه تكييفُ المسألة تكييفًا شرعيًّا وكالآتي:

يجب النظر في الاتّجار بالعمْلات المشفّرة، ومنها البيتكوين، من وجوهٍ ثلاثةٍ:

الوجهُ الأولُ: أن هذا الاتّجار هو عمليةُ مُعاوَضَةٍ: أي عمليةُ بيعِ وشراءِ السِّلعِ، يشتري بموجبه الشخص كميةً من سلعةِ البيتكوين، مثلا، بسعرها السائد في المنصّات، ويحصل على الشّفرة الالكترونية للكمية التي اشتراها ويحفظها لديه، ويُودع ما يقابلها من الدولارات في رقم حساب البائع في أحد البنوك، فتتِمُّ بذلك عمليةُ التقابُض، وهو الركن الأساسي في عمليات البيوع.

ولأن للبيع، في الشريعة الإسلامية أركانًا، فلا بُدَّ من معرفتها ومراعاتها، وهي: العاقدان، والصيغة، والمعقود عليه، فأما العاقدان، فهما البائع والمشتري، وهذا حاصل في هذه المسألة، وأما الصيغة، فهي حاصلة بعملية التقابض الحكمي الالكتروني، على أن تجري من خلال عقود عمليات البيع الفورية، وليس من خلال عقود المشتقات، لأن العملية تجري في بيوع الأموال الربوية، ويجب مراعاة أحكام الربا فيها، وأما المعقود عليه، فهو العمْلة المشفّرة، والسؤال هنا: هل العمْلة المشفّرة مالٌ مُتَقَوَّمٌ، أي لها قيمة في الشرع، أم لا؟ فمن قال: أنها مالٌ متقوّم، نظرَ إلى قيمتها السوقية، ومن قال: أنها مالٌ غبر متقوّم، نظرَ إلى عدم إبرائها القانوني، والرأي عندي، إضافةً إلى هذا وذاك، أن العمْلات المشفّرة سلعٌ فضائية، الكترونية، ليست لها قيمة في الإنتاج والتنمية، سواء كانت لها قيمةً سوقية أم لا، وسواء كانت مُبرأَةً قانونا أم لا، وهذا هدرٌ للكتلة النقدية، وإشغالٌ لها عن أداء دورها في الإنتاج والتنمية والنمو والرفاه، وهو أمرٌ يتنافى مع وظيفة النّقد في المنظور الإسلامي، التي سنتكلم عنها لاحقا.

الوجهُ الثاني: أن هذا الاتّجار من عقود الغَرَرِ، وهي العقودُ التي تحتوي على جَهالةٍ كثيرة ومَخاطِرَ عاليةٍ في أركانها، فالعمْلات المشفّرة سلعٌ غيرُ مُبرأةٍ قانونًا، لذلك فهي غير محمية، ولا مضمونة، وهي عالية المخاطر في نفس الوقت، ليس اقتصاديا فحسب، وإنما سياسيا أيضا.

الوجهُ الثالث: أن هذا الاتّجار من عقود المضَارَبةِ، والمضارَبةُ في الأسواق والبورصات هي إجراءُ عمليات البيع والشراء في منصّات هذه الأسواق بهدف الربح فقط عموما، وليس الحصول على السلعة والاستفادة منها، فهي بذلك تجرُّ الكتلةَ النقدية إلى عمليات تجارة صُورية، مخالفة للمنظور الشرعي لوظيفة النقد من جهة، ومضرّة للاستقرار الاقتصادي العالمي، فالكتلةُ الفائضة الناتجة عن الأرباح التي قد تتولّد عن هذه العمليات، لا تقابلها مبادلاتٌ (السلع والخدمات)، وهذا يؤدي إلى التضخم بمرور الزمن، ويعود جزءٌ من ارتفاع معدلات التضخم اليوم إلى هذه الأنشطة، وفي المقابل، إذا حصلت الخسائر، فالكتلةُ النقدية الضائعة، بل والمتبخّرة، ستترك آثارا اقتصادية سيئة على الافراد والمؤسسات وموارد الدول، وستزداد حوادث الإفلاس، وستؤدي هذه الحالة إلى الركود والانكماش.

لقد حدّد الشارعُ وظيفةَ النّقود في المنظور الشّرعي، فهو لا يعترضُ على وظائف النّقود الخمسة (قِيَمُ الأشياء، ومستوعُ القِيَمِ، ووسيلةُ التبادُل، والمضارَبةُ، وتَحيُّنُ الفُرص)، لأنها وظائفٌ أفرزتْها طبيعةُ النّقدِ، وخِلْقَتُه، وهيكلةُ الاقتصاد، ومسيرتُه الطبيعية عبرَ التأريخ، ولكن الشّرعَ ضبطَ هذه الوظائف من خلال فرضِ المعيارِ الإنساني، والقِيَمِيِّ، أثناءَ أدائِها، ففرضَ وظيفةَ المضاربةِ في الإنتاج لجَني الأرباح، ومنعَ المضاربةَ بهدفِ جَني الأرباح فقط، وقد أشرنا إلى وظائف النقد في المنظور الشرعي في مقالنا البحثي بعنوان "الاقتصاد المعياري في رحاب آيات الربا"، ذكرنا فيه بالتفصيل كافة الأمور المتعلقة بالنقود وكيفية التعامل معها، والآثار الاقتصادية الناتجة عن تداولها في الأسواق، عبر التأريخ.

الحكم الشرعي

نظرا لكون ما يسمّى بالعمْلات المشفّرة، ومنها البيتكوين، سِلعًا فضائية لا تدخلُ العمليةَ الإنتاجية التنموية، ولكون عقودها عقودَ غرر ومخاطرة، ولكون عمليات الاتّجار بها عمليات مضاربة تهدف الربح، ولا تقصِدُ إثراءَ العملية الإنتاجية والتنموية، فإن التعامل معها مُحرَّمٌ شرعًا، حفظًا لأموال الناس من الضياع من جهة، وحفاظًا على دور النقود في التنمية الوطنية من جهة أخرى.

أما إذا أنشأت الدولُ عملتَها الرقمية، بدل عملاتها الورقية، وتمَّ التداولُ بها، فإنها ستتحوّل إلى عملة قانونية، وذات قيمة، ومعدومة المخاطر، تدور من خلالها كلُّ عمليات الإنتاج والتنمية، فعندها تزول عِلَلُ التّحريم، ويَحِلُّ التعاملُ بها، لأن الأحكامَ تدورُ مدارَ العِلَلِ. والله أعلم

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon