هل كان هناك مسيح واحد أم أكثر؟ مقاربة تاريخية ولاهوتية
د. جوتيار تمر
حين يتم الحديث عن المسيحية، لابد للباحث أن يتوقف عند الأرضية السياسية التي نمت وظهرت عليها؛ تلك الأرضية يمكن أن تفسر لنا الحقائق التي تبنى عليها الآراء التاريخية والدينية حول الماهيات الترافقية للحركة المسيحية كسلطة مكانية وزمنية؛ وهذا الأمر لا يتم عبر البحث اللاهوتي وحده، أو بعبارة أخرى عبر تفسير وتحليل نصوص الكتاب المقدس فحسب؛ إذ إن هذه النصوص لا تقدم إلا تلميحات شبه أسطورية عن حياة مؤسس الحركة المسيحية، دون أن تتعمق في تفاصيل المصادر والتحولات السياسية والاجتماعية والدينية.وباعتبار أن المسيحية حدث تاريخي، فإن كل حدث يحتاج إلى زمان ومكان ومحركات وآثار؛ وهذه العناصر لا نجدها بكثرة داخل مرويات الكتاب المقدس، الأمر الذي يدفعنا للبحث عن البيئة التي ظهرت المسيحية عليها، بالعودة إلى المصادر التاريخية التي توثق تلك المرحلة؛ وبذلك نجد أنفسنا أمام سياق الإمبراطورية الرومانية التي كانت آنذاك إحدى أعظم الوحدات الحضارية والسياسية التي عرفها التاريخ، فقد ضمت هذه الإمبراطورية بين حدودها معظم الحضارات القديمة – باستثناء فارس والهند – وامتدت من المحيط الأطلسي إلى الفرات، ما يعني أن الشرق الأوسط بأغلب مناطقه وقع تحت سيطرة الرومان.لكن الإشكالية الأعمق لا تتوقف عند البحث عن بيئة المسيحية الأولى فحسب، بل تتعلق أيضا بإمكانية وجود أكثر من "مسيح" في آن واحد. فالنصوص المتنوعة، سواء في العهد الجديد أو في كتابات بعض المؤرخين اليهود والرومان، تثير تساؤلات عن أكثر من شخصية حملت هذا اللقب أو ارتبطت بفكرة الخلاص والانتظار الم messianic expectations.
ومن هنا يثور السؤال: هل نحن أمام مسيح واحد متفرد، أم أمام صورة مركبة لعدة مسحاء جرى دمجها في شخصية واحدة لاحقا؟.
وتزداد هذه الجدلية تعقيدا عندما نلتفت إلى ما يسمى بالأناجيل المنحولة أو الأبوكريفية، التي رفضتها الكنيسة الرسمية لكنها تضم بين طياتها مسائل تستحق التوقف عندها، فهي تقدم سرديات بديلة عن شخصية المسيح وحياته وتعاليمه، وتكشف عن تعددية في الرؤى داخل المسيحية المبكرة، ما يعكس صراعا بين تيارات لاهوتية وتاريخية حاول كل منها أن يفرض نسخته الخاصة عن "المسيح".
من هذه الزاوية ينطلق كتابي الجديد:
(جدلية المسيحين: هل هما مسيحيان أم مسيح واحد؟ تساؤلات وآراء حول المسيح الداودي والمسيح الإنجيلي)
الصادر عن دار تموز – دمشق 2025.
الكتاب يحاول أن يفتح بابا للنقاش حول تعددية صورة المسيح بين المصادر التاريخية واللاهوتية، ويضع المتلقي أمام جدلية معقدة تتعلق بالتمييز بين المسيح الداودي المنتظر والمسيح الإنجيلي المصلوب، بل ويطرح احتمال وجود أكثر من مسيح في اللحظة التاريخية نفسها؛ وهو ما يقودنا إلى إعادة التفكير في طبيعة الحركة المسيحية المبكرة، وقراءة النصوص، سواء الرسمية أو المنحولة، بعين الباحث التاريخي الناقد، الذي لا يكتفي بالسرد اللاهوتي بل يغوص في أعماق السياق السياسي والاجتماعي والفكري للمرحلة.
إنه محاولة لقراءة الظهور المسيحي من منظور تاريخي ناقد، يعيد للحدث المسيحي سياقه الواقعي، دون أن يحصره في الأطر اللاهوتية التقليدية وحدها.
