على أبواب المدارس.. يتسرب الغد من بين الأصابع

على أبواب المدارس.. يتسرب الغد من بين الأصابع

فرست عبدالرحمن مصطفى

2025-12-11T18:06:13+00:00

منذ أن عرفت الشعوب معنى الدولة أدركت أن بناء المجتمعات يبدأ من باب المدرسة وأن المعلم هو المهندس الأول الذي يشكّل وعي الأجيال ويصوغ ملامح الغد. لكن ما يحدث اليوم في إقليم كوردستان يجعل هذا الدور العظيم ينحسر بين أروقة الفوضى الإدارية والضغوط الاقتصادية حتى باتت المدرسة نفسها تبحث عمّن ينقذها.

الأزمة لم تعد أزمة رواتب فقط، رغم أنها الشرارة التي أحرقت ما تبقى من هيبة المؤسسات. فحين تصبح الحكومة عاجزة عن دفع حقوق من يحمل مستقبل أبنائها، تتحول العلاقة بينها وبين المعلم إلى مجاملات متبادلة بدل المتابعة الجادة. يُغضّ الطرف عن الغياب وتُختلق الأعطال “بين عطلتين”، وكأن المدرسة صارت عبئاً يُراد تأجيله لا رافعةً تُبنى بها الأمم.

ومن رحم هذا الارتباك خرج خللٌ أخطر، اهتزاز الضمير المهني. فبعض المعلمين وقد أثقلهم اليأس صاروا يمارسون دور الحكومة داخل الصفوف، يحددون ما إذا كان الغد يوم دوام أو عطلة وينشرون بين الطلاب رسائل تُسمع لأول مرة في تاريخ التربية:

“غدًا لن اداوم أنا… ولن تُسجل غيابات.”

هنا لا يعود الأمر مجرد فوضى يومية بل انكسارا صامتا في روح التعليم. فإذا كان الطالب يسمع من معلمه أن الغياب مسموح فبأي قيم سنقنعه غدا بجدوى الجدّ والاجتهاد؟ وكيف نطالبه باحترام النظام ونحن نراه يتشقق أمامه بلا مقاومة؟

إننا نقف اليوم أمام مستقبل غامض لأن عملية “بناء الإنسان” نفسها دخلت مرحلة غير مطمئنة. الطالب يفتقد الانضباط والمعلم يفتقد الثقة والمدرسة تفتقد حضور الدولة والدولة تفتقد القدرة على استعادة هيبتها. وهكذا تتحول الأزمة من مشكلة اقتصادية إلى أزمة قيم ومن أزمة رواتب إلى أزمة وطن يبحث عن أساس متين.

لكن ورغم كل هذا، يبقى الأمل معلقا على لحظة وعي جماعي. لحظة تدرك فيها الحكومة أنّ التعليم ليس قطاعاً يُدار بالمجاملات بل حجر الأساس لكل استقرار. ولحظة يدرك فيها المعلم أنّ رسالته أكبر من ألمه وأن انهيار الضمير المهني أخطر من أي أزمة مالية. ولحظة يدرك فيها المجتمع كله أن الجيل الذي لا ينضبط اليوم… لن يستطيع قيادة الغد.

فالمستقبل لا يُصنع بالعطل ولا بالرسائل المُحبِطة ولا بالتساهل في أخطر مهنة عرفتها البشرية. المستقبل يُصنع حين تستعيد المدرسة هيبتها والمعلم رسالته والدولة مسؤوليتها.

"أعطوني تعليماً… أعطيكم وطناً لا ينهار"

وحتى يحدث ذلك… سيبقى سؤال ملحّ يطاردنا جميعاً:

"من الذي يبني الإنسان حين يتراجع مَن بُنيت الأمم على أكتافهم؟"

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon