حين صمتت بغداد وتثاءب العالم… وذبحت سنجار مرتين

حين صمتت بغداد وتثاءب العالم… وذبحت سنجار مرتين

خيري بوزاني

2025-07-30T07:46:53+00:00

نعتقد انه لا توجد كارثة أو مصيبة تبدأ عندما يتم إطلاق الرصاصة الأولى، بل حين يفر الحُرّاس الأمناء من صمام امان بوابة المدينة او القلعة "المحصنة" وذلك في ليلة دامسة قد اطفأ مصابيح ضميرها.

موصل "المحصنة" لم تسقط في 10-6-2014 بل تهاوت وانهارت بتصوير بطيء في قلب دولة لا يعرف معنى الحنان ولا يعرف كيف يحضن رعاياه، ومجتمع دولي اعمى وأصمّ، نعم سقطت الموصل وتلتها توابعها (كما تسقط حجر الدومينو ويليه أقرانه بالسقوط والسقوط). وإحدى هذه الحجرات كانت "سنجار" التي عانت تاريخها المآسي، العوز والحرمان، لكن في النكبات تحصل على حصة الاسد.

نعم سقطت نينوى، لكن الطامة الكبرى كانت من نصيب ايزيدية سنجار.

مكتوب في السجلات الحكومية وأيضاً كتب الجغرافية ان سنجار إدارياً تابعة لنينوى وثم لبغداد، والكل يعلم ان من بيده السلطة، يتحمل وزر الفجائع التي وقعت تحت سقفها. ما حدث من قتل وفتك وسبي ودمار.. لم يكن وليد لحظتها، بل نتيجة فراغ أمني تُرك عمداً أو غفلة أو بقصد مبيت أو سبق اصرار وترصد… وفي جميع هذه الحالات وتلك يكون الجرم واقفاً عند أعتاب الدولة العراقية والمجتمع الدولي برمته.

وإذا كانت الذاكرة السياسية قد اصابها الخرف و الزهايمر ، فمن الصعوبة جداً ان نلتمس ان ذاكرة الضحايا تنسى بل هي عصيّة على المحو. كما ان ذاكرة الأمهات اللواتي ما زلن يئنن ليل نهار وينتظرن ان يطرق أبواب البيت بايدي فلذاتها المخطوفين. نعم ان ذاكرتهن تُدوّن على جلد الصبر لا على ورق.

فالبرلمان العراقي، بكل صخبه وخطبه، يأبى ان يعترف بأن ما جرى للإيزيديين إبادة جماعية، رغم أن خمسة عشر برلماناً ومنظمة دولية ومن قارات بعيدة أدركوا حجم الفاجعة، واعترفوا بها وهم لا تربطهم بسنجار لا لغة ولا دم. أما برلماننا، فاعترف أن سنجار “منطقة منكوبة”، وكأن من يعترف باحتراق البيت دون أن يجرؤ على تسمية النار.

وفي مشهد آخر وهو الاخر لا يقل وجعاً، صدر قانون الناجيات كإيماءة باهتة نحو الاعتذار، ثم تُرك معلقاً في الهواء مثل وعود زفافٍ في قرية أكلتها الحرب، لا عرائس فيها ولا أعراس.

ان ما نراه اليوم، من الاحتفالات بذكرى مرور كذا وكذا سنة على الابادة، لا يتعدى كونه حفلات رثاء موسمية، كلمات مدهونة بالألم، صور أرشيفية مهترئة، وقصاصات صحف لا تملأ فراغ مائدة أم مكسورة، ولا تُعيد لطفلة روحها التي اختُطفت قبل جسدها.

حتى “اتفاق سنجار”، ذاك الذي اعد وصيغ وكتب بأقلام المجاملات بين بغداد وأربيل، باتت مكسوة بالغبار والأتربة وهي محبوسة داخل الأدراج، ولا احد يحرك ساكن، ولا إرادة سياسية تُنقذه من موته الورقي. تحوّل إلى وثيقة تُرفع في المناسبات وتُنسى في الاجتماعات، كأن ما فيها لا يمسُّ أرواحاً بل حبراً على حواف النسيان.

العار، كل العار، أن يكون الخارج أحن من الدولة على أبنائها. وأن تتحول سنجار إلى مكان مؤجل، لا هو مأوى للعودة، ولا هو حضن للشفاء. صارت فاجعتها مجرد طقس سنوي، تضاء له الشموع وتطفأ الملفات، وتُلقى فيه الخطب كما تُلقى الورود على القبور.

الإهمال لم يعد عرضاً جانبياً، بل صار شريكاً رسمياً في الجريمة. والصمت لم يعد حياداً، بل قيداً جديداً في يد الناجيات.

سنجار لا تنتظر مديحاً ولا دموعاً، بل تنتظر اعترافاً كاملاً لا يداوره الخجل. لا تحتاج تماثيل رخامية، بل حياة حقيقية لأبنائها. لا تطلب جداريات، بل ضميراً يعترف أن ما جرى لم يكن قدراً عابراً، بل خيانة عميقة تحت علم الوطن.

وسيبقى السؤال معلقاً في حلق التاريخ: من يُعيد العدالة إلى جبلٍ طُعن من خاصرته؟ وما لم تُعد الدولة حساباتها، وتنهض من سباتها، وتكفر عن ذنبها الكبير، فستبقى سنجار لعنة على من خانها، ونقطة سوداء لا تُمحى من جبين العدالة، مهما استعاروا لها المرايا.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon