انفال البارزانيين، ذاكرة لا تموت وإن دفنوها
خيري بوزاني
انفال البارزانيين لم تكن حملة اعتقالات جماعية فحسب، ولم تكن مجرّد حدث عابر كان بالإمكان تلخيصها في نشرة خبرية أو خطاب سياسي أو حتى كتقرير دولي. بل هي كانت كفصل من فصول الفقد الجماعي وذلك عندما يصبح الإنسان مجرد رقم ليس إلا.
في عام 1983، كان المشهد أكثر اتساعاً من أن يُختصر، . بل اكثر واكثر بكثير قسوة من أن يُروى. وذلك عندما قرّر النظام البعثي الفاشي أن البارزانيين - حتى وان كانوا مدنيين عزل - يشكلون خطراً لأنهم حملوا انتماءً، واحتفظوا بذاكرة لم ترضخ.
ثمانية آلاف رجل وصبي، اخرجوهم من بيوتهم - الذي اسكنوهم فيها قسراً - عنوة وبكامل الوحشية، قبل بزوخ الفجر، ولم يعودوا إلى الآن . اقتيدوا من مكانهم إلى اللا مكان. لا وداع، لا تهم، لا محاكم، لا قبور بأسماء يذكر. حيث اراد لهم النظام أن ينفي وجودهم حتى من التراب. دفنهم في رمال الجنوب القاحلة.
لكن الهول لم ينتهِ هناك في الصحراء التي أصبحت ككفن جاف يلتف اجساد الأبرياء. بل ان الحكاية بدأت فعلياً عند الذين بقوا خلفهم. الأمهات اللاتي لم يجدن قبوراً يزُرنها، الزوجات اللاتي لم يرتبطن بيُتم، بل بِضياع، الأطفال الذين حفظوا أسماء آبائهم من الصور. ومن هنا بدأت بارزان تكتب سرديتها: لا بالحبر، بل بالدّمع. لا في الصحف، بل في تفاصيل الحياة اليومية. في الكرسي الفارغ عند مائدة الغداء. في الصورة المُعلّقة فوق المدفأة.
هذه لا تعدو كونها مجزرة فحسب، بل هي كانت محاولة لمسح الذاكرة الجمعية لعشيرةٍ كانت تنظر للنظام بعينٍ ناقدة، لا خائفة. عشيرة دفعت ثمن انتمائها السياسي والأخلاقي، ووجدت نفسها أمام آلة لا تفرّق بين من قاوم ومن صمت، بين الشيخ والطفل، بين الحيّ والميت، فالكل كان مستهدفاً.
ولم تكن أنفال البارزانيين حدثاً منعزلاً، بل كانت مقدّمة لما سيأتي لاحقاً من أنفالٍ أوسع، أكثر بشاعة. لكنها بقيت الحلقة الأكثر غموضاً.
صمت العالم وقتها كان مدوياً. وكأن العالم كان بحاجة إلى جريمة مصورة، لا جريمة موثقة. لكن بارزان لم تنتظر اعترافاً دولياً، بل صنعت اعترافها بصبرها، بدموعها، بقدرتها على النجاة من كل محاولات المحو.
والآن، بعد أربعة عقود، ما زال السؤال قائماً: هل انتهت الأنفال؟
الحقيقة أن الأنفال ليست حدثاً له بداية ونهاية. بل هي حالة، ظاهرة، منطق في تفكير بعض الأنظمة، بأن الإبادة أداة لحلّ المسألة الكردية. وما لم يتم الاعتراف بهذه الجريمة كجريمة إبادة جماعية، لا من باب الشفقة، بل من باب العدالة، فستظل بارزان تعيش أنفالها كل يوم… بشكلٍ جديد.