الإخلال الخطير بالنظام البيئي في العراق جريمة لا تغتفر

الإخلال الخطير بالنظام البيئي في العراق جريمة لا تغتفر

ا.د. محمد العبيدي

2021-09-19T14:10:26+00:00

لماذا تسن القوانين في العراق ولا تنفذ من قبل الحكومة ومؤسساتها الرسمية؟

من خلال خبرتي الطويلة بالصحة البيئية، سأسلط الضوء في تقريري هذا على العديد من الجرائم البيئية (بالعرف الدولي) التي ترتكبها الحكومة العراقية وجميع مسؤوليها، إضافة للمواطن الذي هو السبب الرئيسي في الخلل الذي يصيب التوازن البيئي، الأمر الذي أصبح فيه العراق واحداً من أكثر بلدان العالم إخلالاً بالنظام البيئي والصحي.

لقد سن مجلس النواب "قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009" الذي أشار في مقدمته أنه "يهدف إلى حماية وتحسين البيئة من خلال إزالة ومعالجة الضرر الموجود فيها أو الذي يطرأ عليها والحفاظ على الصحة العامة والموارد الطبيعية والتنوع الإحيائي والتراث الثقافي والطبيعي بالتعاون مع الجهات المختصة بما يضمن التنمية المستدامة وتحقيق التعاون الدولي والإقليمي في هذا المجال."

في عراق ما بعد عام 2003، لم ينفذ معظم ما سنه مجلس النواب من قوانين وتشريعات إلا ما فيه مصلحة للطبقة السياسية الحاكمة. فالمفروض أن هدف القانون أعلاه هو حماية وتحسين البيئة من خلال:

  1. إزالة ومعالجة الضرر الموجود فيها. فماذا قامت به الحكومة ومؤسساتها لتنفيذ ذلك؟ لا شئ على الإطلاق.

  2. الحفاظ على الصحة العامة. هذه مهزلة أخرى، حيث أصبحت صحة المواطن أسوأ من أي وقت مر به العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى عام 2003.

  3. الحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع الإحيائي والتراث الثقافي والطبيعي. وهذه هي الأخرى أصيبت بالشلل التام ولأسوأ ما مر به العراق لغاية اليوم.

ولو عدنا لـ "قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009" الذي من المفروض أن تنفذ بنوده جميع المؤسسات الحكومية المعنية بتنفيذه، وهي جميع مؤسسات الدولة بدون إستثناء، وكما وردت في القانون نفسه، أركز في تقريري هذا على عدد من مواد القانون ومنها المادة 13 (أولا) حيث يذكر فيها: " تتولى الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم بمراحله المختلفة العمل على إدخال المواد والعلوم البيئية في جميع المراحل الدراسية والعمل على إنشاء وتطوير المعاهد المتخصصة في علوم البيئة لتخريج الملاكات المؤهلة للعمل البيئي بالتنسيق مع وزارة البيئة" .

هذه ليست بمزحة، فالقانون سن عام 2009 ونحن في الربع الأخير من عام 2021 ولا زلنا نرى أن هناك آلاف المدارس الطينية في جميع أنحاء العراق، ولا زلنا نرى إفتقار جميع مدارس العراق إلى مرافق صحية نظيفة تليق بالبشر، بل لا زلنا نرى أن جميع مدارس العراق تفتقر إلى ماء نظيف صالح للشرب وماء بارد للشرب في عز الصيف الحار وأثناء الإمتحانات على أقل تقدير، الأمر الذي يشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة لطلبة المدارس حيث يمثل هذا الأمر برأيي جريمة بيئية كبرى ترتكبها الحكومة بحق ملايين الطلبة لأنها سلبت منهم واحداً من حقوقهم الإنسانية الصحية المشروعة.

رغم الخلل البيئي الصحي الوارد أعلاه الذي سببته الحكومة، يطالب القانون في المادة والفقرة أعلاه "بإدخال المواد والعلوم البيئية في جميع المراحل الدراسية والعمل على إنشاء وتطوير المعاهد المتخصصة في علوم البيئة لتخريج الملاكات المؤهلة للعمل البيئي بالتنسيق مع وزارة البيئة"... ترى ماذا فعلت وزارات التربية والتعليم العالي والبحث العلمي بخصوص الإلتزام بهذه الفقرة المهمة من القانون؟ لا شئ على الإطلاق؛ وهذا هو الآخر إخلال متعمد من قبل تلك الوزارتين بقانون أقرته السلطة التشريعية في البلاد.

إن إستهتار معظم مؤسسات الدولة وعلى رأسها وزارة الصحة والبيئة المعنية بالصحة البيئية في عموم العراق وكذلك أمانة بغداد بإعتبارها مسؤولة عن البيئة في العاصمة بغداد، ليعتبر جريمة من أكبر الجرائم الصحية البيئية التي تمارس بحق المواطن العراقي.

كما جاء في المادة 14 (أولاً) من "قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009" ما يلي: "يمنع تصريف أية مخلفات سائلة منزلية أو صناعية أو خدمية أو زراعية إلى الموارد المائية الداخلية السطحية والجوفية أو المجالات البحرية العراقية إلا بعد إجراء المعالجات اللازمة عليها بما يضمن مطابقتها للمواصفات المحددة في التشريعات البيئية الوطنية والاتفاقيات الدولية ".

لماذا إذاً لا تطبق هذه المادة على من يقومون بتلويث الأنهر بالمياه الثقيلة ومحاسبتهم وفق القانون؟

وقد شاهدتم في تقريري الماضي بالصورة تصريف مبزل شمال شرقي بغداد (الذي ذكرت سابقاً أنه أخطر بؤرة بيئية على صحة المواطن في بغداد) والذي تحدثت عنه كثيراً فيما مضى وكيف تصرف مياهه إلى نهر دجلة عند منطقة صدر قناة الجيش لتلوث الماء والتربة إبتداء من بغداد وحتى مصبه في الخليج العربي، حيث يعتبر ذلك أيضا أكبر جريمة بيئية ترتكبها أمانة بغداد بحق مياه وتربة العراق وقبل كل شئ بحق صحة المواطن العراقي... فمن يتحمل وزر هذه الجريمة؟

وأعود هنا وأكرر أن هناك، على سبيل المثال، موقعين في العاصمة يعتبران من أسوأ بؤر الإخلال بالتوازن البيئي في بغداد وأخطرها على صحة الإنسان، وهي:

  1. المبزل الواقع غرب بغداد (صورة رقم 1)، والذي يبدأ من منطقة العبيدي وينتهي ليصب بنهر دجلة عند صدر قناة الجيش حيث يعتبر بتقديري واحداً من أخطر بؤر التلوث البيئي والصحي في دول العالم الثالث، ذلك نظراً لإتساع رقعته الجغرافية حيث طوله بحدود 40 – 45 كلم ولأنه يمر في أكثر المناطق كثافة بالسكان في العاصمة، كما أنه يستعمل لتصريف المياه الثقيلة للدور السكنية التي يمر بها إضافة لرمي كل أشكال الأوساخ والقاذورات والحيوانات الميتة فيه.

ومن خلال عملي كمستشار بالصحة البيئية مع العديد من المنظمات الدولية، فقد زرت 56 عاصمة حول العالم تمتد من شرق الكرة الأرضية إلى مغربها (دول في أمريكا اللاتينية وآسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، إضافة لدول حوض البحر المتوسط ومعظم دول أوربا الغربية)، فإني لم أجد أو أشاهد بؤرة تلوث بيئي/صحي تخل بالتوازن البيئي وتشكل خطراً كبيرا على الصحة العامة كالذي شاهدته في المبزل المذكور، كما أني لم أشاهد عاصمة أوسخ بيئياً من بغداد. إضافة لذلك، فمن يمر بالشوارع الرئيسية للعاصمة ومحافظات العراق الأخرى (عدا إقليم كردستان) وبدون إستثناء، يرى أطناناً من النفايات المنزلية ترمى في أراضٍ متروكة داخل المناطق السكنية والتي لا يتم جمعها والتخلص منها بشكل دوري ومنظم، وهذا بحد ذاته عامل بيئي خطير للإخلال بالصحة العامة.

نحن أمام مشكلة لا تقتصر على النفايات وحدها بل وتمتد إلى وعي المواطن، على اعتبار أن المواطن هو الذي يصنع النفايات، أما في المنزل الذي يسكنه أو في المؤسسة التي يعمل فيها. لهذا يعتبر المواطن بطريقة أو بأخرى مصدرا للموارد التي تولد هذه المشاكل. عندما تتشكل النفايات يرفض الجميع تولي مسئوليتها، سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات. مع أن الجميع يعون تماما وجود النفايات ويعون أنهم سبب وجودها.

  1. محطة جمع وضخ مياه الصرف الصحي (صورة رقم 2) التي تقع وسط حي سكني من أحياء منطقة السبع إبكار (بغداد-الرصافة) والتي لم أرى مثل موقعها المؤثر سلباً على البيئة والصحة العامة في أي دولة من دول العالم التي عملت فيها أو زرتها، ولا أدري أي جهة نفذت بناء هذه المحطة وسط حي سكني ولا كيف فكر المسؤولون ببنائها هناك.

إن مياه المبزل الملوثة بمياه الصرف الصحي والأوساخ على إختلاف أنواعها والمياه الثقيلة التي تجمع في محطة السبع إبكار تضخ إلى محطة تقع في صدر قناة الجيش والتي بدورها تضح تلك المياه القذرة إلى نهر دجلة، وبهذا تتلوث مياه النهر ناقة ذلك التلوث من تلك المنطقة وحتى مصب النهر. إنه بصراحة أخطر حالة تلوث للمياه في العالم بحيث أنه يؤثر ليس فقط على صحة البشر جنوب منطقة محطة الضخ في صدر قناة الجيش، بل على التربة وعلى كل المنتجات الزراعية التي تسقى من تلك المياه الملوثة لري الأراضي الزراعية منها وعلى إمتداد نهر دجلة.

العلاج

  • تشكيل هيئة وطنية للصحة البيئية National Environmental Health Association وتكون هذه هيئة رقابية تفتيشية، في العاصمة بالذات، مهمتها منع وتجريم أي إخلال بعوامل الحفاظ على بيئة صحية في بغداد.

  • يضاف إلى ذلك حملة إعلامية تهتم بتنمية الوعي البيئي لدى المواطن بشكل جيد لاسيما أن البيئة تمثل أهميةً كبيرةً للإنسان، فهي المحيط الذي يعيش فيه، ويحصل منه على مقومات حياته من طعامٍ وشرابٍ وهواءٍ، وهي المحيط الذي يتفاعل معه ويمارس فيه علاقاته المختلفة مع غيره من الكائنات والمكونات.إضافة إلى توعية المواطن بأهمية البيئة لصحة المجتمع وسلامته من الأمراض، وخصوصا الخطرة منها.

  • إعادة تصنيع/تدوير النفايات.

  • يجب دراسة طرق الحد من تأثير الغبار على المواطن في العاصمة بالذات من خلال العودة وبشكل مكثف بإحاطة العاصمة بحزام أخضر وزرع الأشجار دائمة الخضرة في جميع المناطق وكذلك زرع الحشائش في الأراضي غير المستغلة لأي غرض.

  • يجب ردم مبزل غرب بغداد تماما كما تم ردم نهر الخر سابقا في عام 2002، وإيقاف العمل بمحطة جمع وضخ مياه الصرف الصحي في منطقة السبع إبكار ومن ثم ردمها والتخلي عنها تماماً. كما ننصح الجهات المسؤولة عن البيئة في العاصمة والمسؤولة عن التخلص من مياه الصرف الصحي فيها الإستفادة من الطرق الحديثة في معالجة مياه الصرف الصحي وكيفية الإستفادة منها بعد معالجتها.

كلي أمل أن تأخذ الجهات المهتمة بالبيئة هذا الموضوع محمل الجد والإهتمام وتباشر فورا بالتخلص من هذا الخطر البيئي الجسيم على صحة سكان العاصمة.

وإضافة لما ذكرته أعلاه، يجب تفعيل المادة 15 (أولاً) من القانون التي تنص على: "يمنع انبعاث الأدخنة أو الغازات أو الأبخرة أو الدقائق الناجمة عن عمليات إنتاجية أو حرق وقود إلى الهواء إلا بعد إجراء المعالجات اللازمة" (معامل الطابوق المسرطنة نموذجاً).

ورغم وجود تشريعات تخص البيئة وحمايتها، قبل وبعد عام 2003، إلا أن المؤلم أن هذه التشريعات لم يطبق منها أي شئ بعد 2003 حيث عمت الفوضى وإستشرى الفساد في جميع مفاصل مؤسسات الحكومة العراقية، بل والمهزلة الكبرى أن قانون حماية وتحسين البيئة قد وضع على رفوف جميع مؤسسات الدولة المعنية بتنفيذه، ولهذا نرى الخلل البيئي الخطر الذي أصاب العراق يهدد جميع الأحياء فيه بموت يكاد يكون محققًا ما لم يتم العمل فوراً على إصلاح ذلك الخلل.

ولكون الحكومات التي تعاقبت على إدارة الدولة في العراق غير مهتمة بهذا الأمر، وبسبب جهل المواطن بأهمية البيئة على صحته الأمر أصبح فيه هذا المواطن سبباً مباشراً ورئيسياً في الإخلال بالنظام البيئي، لهذا أدعو جميع العاملين في مجال الإعلام بكافة منافذه، المساعدة على إطلاق حملة إعلامية تثقيفية بأهمية البيئة على صحة المواطن وكيفية الحفاظ عليها من الضرر الذي يقوم به المواطن نفسه، والذي تغض النظر عنه المؤسسات الحكومية الرسمية المعنية بالبيئة، وعلى رأسها وزارة الصحة والبيئة وأمانة بغداد.

بالرغم من أن قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 قد أكد في الفقرتين "ثانيا" و "ثالثاً" من المادة 13 على ما يلي:

  • تتولى الجهات المسؤولة عن الإعلام والتوجيه والإرشاد العمل على تعزيز برامج التوعية البيئية في مختلف وسائل الإعلام وتوجيه برامجها العامة والخاصة بشكل يخدم حماية البيئة .

  • تتولى الجهات المعنية بالثقافة إعداد البرامج وإصدار الكتب والمطبوعات والنشرات التي تهدف إلى تنمية الثقافة البيئية .

إلا أن جميع المؤسسات الإعلامية وبكل أشكالها لم تولي موضوع البيئة في العراق أي إهتمام يذكر وبذلك فهي شاركت بشكل غير مباشر بغض النظر عن القانون أعلاه وعدم أخذ دورها في تثقيف المواطن على أهمية حماية البيئة والضرر الخطير الناتج جراء تدميرها بالطريقة التي تجري الآن في عموم العراق. بل والأكثر من ذلك فإن عدم تنفيذ ما جاء في الفقرتين أعلاه من قبل المؤسسات المعنية بالبيئة، وأعني هنا وزارة الصحة والبيئة وامانة بغداد، هو فشل ذريع وإخلال وتدمير متعمد للبيئة في العراق.

تذكروا أن البيئة لم تحمى في العراق أبداً، فما بالكم بتحسينها حسب تسمية القانون الذي شرعه مجلس النواب عام 2009 !!!

وهكذا تسن القوانين في العراق ولا تنفذ، مع الأسف.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon