إعصار في الساتر.. "التسويات" تضع بيروت وبغداد تحت تأثير "الدومينو"
شفق نيوز - بيروت/ بغداد
منذ فجر السابع من أكتوبر 2023، ظهرت ملامح شرق أوسط جديد، دول المنطقة بدت وكأنها تتساقط كقطع الدومينو - واحدة تلو الأخرى - لا ثابت فيها سوى متغيرات جيوسياسية، بعضها تتم بسياسة "الجزرة والعصا" إيذاناً ببدء عهد بلا "محور مقاومة" تدعمه إيران منذ أكثر من عقدين.
في بيروت، يتصاعد الأدرينالين بين اللبنانيين، وسط مخاوف من جرّ بلادهم إلى منزلق لم يعهدوه منذ الأيام السوداء لـ"الحرب الأهلية" أو "الغزو الإسرائيلي" الشامل في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك في ظل التحولات العاصفة التي تضرب المنطقة، والانشغال العربي والدولي بحرب غزة الدموية، وبعملية إعادة صياغة سوريا الجديدة ونظامها ودورها.
معادلات الصراع الإقليمي تفرض نفسها بقوة على "عروس الشرق"، بينما يحاول اللبنانيون الخروج من أكثر سنواتهم قسوة في العقود الماضية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، يتزامن ذلك مع ما يجري في الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وسياسات بنيامين نتنياهو، وتداعيات إعادة تركيب المشهد السوري وسط عمليات قتل متفلتة وتدخلات خارجية متعددة الجوانب، والتوترات القائمة في العراق في ظل الضغوط الأميركية على بغداد وإعادة تموضع وانتشار التحالف الدولي، والتوتر الكامن على خط المواجهة المحتملة بين إسرائيل وإيران.
المفارقة تكمن، وفق مراقبين لبنانيين وإقليميين، في أن لبنان ليس وحده تحت "تأثير الدومينو" هذا من معادلات وعناصر متشابكة ومتداخلة، وأن تطورات المشهد اللبناني هي الأخرى، قد تكون مؤشراً على انهيار و/أو أزمة إقليمية كبرى، فيما لو ظل لبنان، أو انحدر بشكل أكبر، نحو هاوية بلا ضوابط، وبمعنى أوسع فإن المشهد الإقليمي نفسه قد يشهد تقلبات عنيفة بتأثيرات من زلزال لبناني محتمل.
وتتجمع مؤشرات لبنانية داخلية عديدة لا تثير اطمئنان اللبنانيين والمراقبين، وانقسامهم في الوقت نفسه، خصوصاً حول قرار حكومة نواف سلام يومي 5 و7 آب/أغسطس الحالي، بـ"حصر السلاح" استجابة لما يسمى في بيروت بـ"الورقة الأميركية" التي قدمها الموفد الأميركي توم باراك والتي تتضمن شروطاً إسرائيلية، كما يقول محللون، مفروضة على لبنان، تقايض فيها لبنان على "سلاح المقاومة" مقابل وعود وتعهدات -غير مضمونة- بوقف اعتداءات إسرائيل وتقديم دعم اقتصادي وتمويل الجيش اللبناني.
تأتي هذه التطورات فيما لا تزال الأوضاع الشاذة في سوريا تلقي بظلالها على لبنان واللبنانيين، إذ يوجد أكثر من 1.5 مليون سوري على الأراضي اللبنانية، وعجزت السلطات في بيروت منذ أكثر من 15 سنة عن معالجة أوضاعهم، لا بالتفاهم مع النظام السابق لبشار الأسد، ولا مع النظام الحالي لأحمد الشرع، الذي قالت حكومته مراراً إن "أولويتها" هي استعادة السجناء السوريين في السجون اللبنانية، وبالكاد تطرقت منذ 8 شهور إلى قضية النازحين.
وبرغم زيارات رئيس الوزراء الحالي نواف سلام، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، ولقاء رئيس الجمهورية جوزيف عون مع أحمد الشرع في القاهرة، إلا أن المراقبين اللبنانيين تستوقفهم فكرة أن أي مسؤول سوري لم يزر بيروت حتى الآن، برغم حساسية وأهمية الملفات التي تحتاج إلى معالجة من الطرفين، بما في ذلك وزير خارجية النظام أسعد الشيباني الدائم السفر إلى العواصم القريبة والبعيدة، وهو ما فسره العديد من المراقبين بأنه يعكس ذهنية السلطة الجديدة الحاكمة في دمشق، والتي تظهر الجفاء إزاء لبنان الذي كان في الماضي جزءاً مما كان يسمى سوريا الكبرى.
أمن الحدود
وبينما تشهد الحدود اللبنانية تفلتاً واضحاً من الجهة السورية، وتنشط عصابات التهريب السورية واللبنانية ما بين الطرفين، وأحياناً في ظل تعديات من مسلحي فصائل سورية، بعضها مرتبطة بالأمن السوري، فإن المشهد يكاد يكتمل سوريالية، بعدما خرجت مجموعات من العشائر السورية مؤخراً رافعة التهديدات باجتياح الأراضي اللبنانية للضغط من أجل إطلاق سراح أكثر من ألفي سوري سجين في لبنان، وهو ما أجبر الجيش اللبناني المنهك والمشتت جنوباً وشمالاً على تعزيز حضور نقاط المراقبة والسيطرة عند الحدود الشمالية والشرقية.
هذه نقطة مثيرة للتوتر والقلق في لبنان، خصوصاً بعد مشاهد القتل والتعذيب التي شاهدها اللبنانيون خلال الشهور الماضية في مناطق سورية مختلفة، وخصوصاً في منطقة الساحل وريف حمص والمناطق الكردية وفي السويداء التي تقول السلطة السورية رسمياً إن مسلحي العشائر هم من ارتكبوا جرائم الإعدام والانتهاكات في السويداء.
سلطة الشرع تتعامل مع قضية المساجين السوريين في لبنان باعتبار أنهم "معتقلون" وكأنهم ليسوا جناة أو مرتكبين، علماً بأن الأرقام اللبنانية تشير إلى أن المسجونين والموقوفين السوريين، يشملون المئات ممن ارتكبوا جرائم مثبتة، بما في ذلك جرائم إرهابية والمشاركة في الاعتداء على الحدود والغزو، وحمل السلاح بوجه الجيش اللبناني وقتل عناصره وقتل مدنيين وسطو وخطف واغتصاب، وكثيرون أُحيلوا إلى محاكم رسمية وصَدرت بحقهم أحكام قانونية.
هناك مشكلة "أخلاقية" بين لبنان وسوريا، يثقلها إرث العلاقات غير المتوازنة تاريخياً بينهما، ويبدو أن لبنان يجد نفسه مجدداً أمام تحدي التعامل مع هذا الموروث في مقابل حكم جديد في دمشق لا يولي أهمية لمسار العلاقات مع بيروت. وفي ظلال هذا الملف الساخن، دخلت المملكة العربية السعودية على خط التسوية، ورعت في آذار الماضي، بعد وقوع اشتباكات حدودية، اتفاقاً حدودياً من خلال تدخل وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان آل سعود.
لكن تهديدات العشائر السورية قد تطيح بهذه التفاهمات السعودية بين بيروت ودمشق، وهي أيضاً قد تتسبب في اشتعال اشتباكات على طول الحدود الممتدة بينهما لمسافة نحو 400 كيلومتر، مع العشائر اللبنانية في الجهة المقابلة من الحدود، ومع قوات الجيش، وأيضاً غالباً بمشاركة عناصر من قوات حزب الله التي تنتمي إلى هذه المجتمعات عند الحدود.
وإذا كانت هذه المخاوف تعكس أحد عناصر تفجير محتملة في لبنان، فإن المراقبين لا يستبعدون، في ظل التقارب المتسارع بين حكم الشرع وبين إسرائيل، أن تحاول سلطات دمشق المساهمة في تقديم خدمة لإسرائيل والانخراط في الضغوط الممارسة على لبنان بسبب ملف حزب الله. وكان من اللافت أن بعض الشخصيات المسيحية تحدثت في الشهور الماضية مراراً عن فكرة أن بالإمكان الرهان على ضغط إضافي مصدره الجانب السوري، على حزب الله للتنازل داخلياً وتسليم السلاح.
سلاح الحزب
ولهذه الأسباب، ولأسباب كثيرة غيرها، فإن قضية سلاح حزب الله تبدو شديدة الحساسية في لبنان، وقد تداخلت فيها العناصر الداخلية مع المعادلات الإقليمية. وبهذا المعنى، يمكن بالنسبة للعديد من المراقبين أن يتخوفوا من تداعيات قرارات الحكومة اللبنانية حول "حصر السلاح"، والتي تثير هواجس سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي خلال الحرب الأهلية.
وربما كان رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، الشيخ علي دعموش، واضحاً في موقف الحزب ومؤيديه، عندما قال اليوم الجمعة، إن "القرار الخطيئة الذي اتخذته الحكومة بنزع سلاح المقاومة لا يفتقد فقط إلى النصاب الميثاقي، وإنما أيضاً إلى النصاب الوطني، وإلى أدنى مستوى من العقلانية.. قرار الحكومة خطير ولا نعرف تداعياته، وقد يضع البلد على حافة الانفجار، وعلى الحكومة أن تتراجع عنه.. فالحكومة حوّلت بقرارها المشكلة مع العدو الإسرائيلي إلى مشكلة داخلية بين اللبنانيين، وفتحت بذلك الطريق لمسار داخلي محفوف بالمخاطر والتعقيدات والمشكلات".
وتابع المسؤول الحزبي قوله: "هذا السلاح باقٍ طالما هناك احتلال وعدوان، فلا يراهنن أحد على ضعفه، ومن يراهن على ضعفه بسبب متغيرات إقليمية ودولية فهو مخطئ وواهم".
وفي مؤشر إضافي على احتمالات المرحلة المقبلة، خصوصاً مع اقتراب موعد الجلسة المقبلة للحكومة في 2 أيلول/سبتمبر، يقول الشيخ دعموش: "تصرفنا حتى الآن بهدوء ولم نلجأ إلى خطوات احتجاجية كبيرة، لكن هذا النهج قد لا يستمر طويلاً. لم نلجأ إلى التصعيد حرصاً على الاستقرار ولإعطاء الحكومة فرصة لتصحيح قرارها، لكننا قد نفعل ذلك إن أصرت على تمرير قرارها".
صحيح أن حزب الله تلقى ضربة كبيرة خلال ما سمي "حرب الإسناد" لغزة، والتي خاضها مع إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وصولاً إلى وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إلا أن الانتهاكات الإسرائيلية لبنود الهدنة والقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لا تزال مستمرة، وآخرها مقتل لبناني اليوم من الذين عادوا إلى قراهم المدمرة بعد الحرب، وتحديداً في قرية عيتا الشعب، حيث أعاد إعمار منزله، لكن مسيرة إسرائيلية قتلته اليوم بغارة.
وهذه ليست حادثة فريدة، فهناك آلاف الانتهاكات الجوية والبرية وطلعات الطائرات المسيّرة التي سُجلت منذ وقف إطلاق النار، وفيما يعكس ضعف صورة الحكومة أمام مواطنيها لعجزها عن التعامل مع التحدي الإسرائيلي، فإن مركز "الدولية للمعلومات" المتخصص بالإحصاءات، أشار إلى أنه خلال أسبوع واحد فقط منذ إعلان الحكومة قرار "حصر السلاح"، تم تسجيل 85 اعتداء إسرائيلياً أدى إلى سقوط 11 شهيداً و20 جريحاً وأضرار ودمار وحرائق في 10 أماكن.
العراق ولبنان
ولهذا، لم يكن مفاجئاً أن يحط الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، في بيروت سريعاً بعد قرار الحكومة، وذلك بعد محطته العراقية التي جرى خلالها التوقيع على اتفاق أمني جديد، في وقت تشهد بغداد نقاشاً ساخناً تحت ظلال المتابعة والضغط الأميركي، فيما يتعلق بمصير قانون الحشد الشعبي ودوره في المستقبل الأمني والسياسي للعراق.
ولاريجاني، المعروف بقربه من المرشد الإيراني علي خامنئي، يدرك أن تطورات المشهد اللبناني - والعراقي طبعاً- تعني أن يتحتم على طهران أن ترسخ حداً فاصلاً أمام درجة التنازلات أو المساومات الإقليمية التي يمكن القبول بها، بعدما خاضت مع إسرائيل حرباً قاسية لا تعتبرها هزيمة، خصوصاً أن واشنطن ترامب انضمت إليها.
لكن رسالة لاريجاني، بخلاف محاولة ترطيب الأجواء الدبلوماسية مع حكومة لبنان التي تحاول إظهار "النأي بالنفس" عن "المحور الإيراني"، وهي تحاول مخاطبة ود إدارة ترامب، لم تكن تحتمل الالتباس: صحيح أن قرار لبنان المتعلق بـ"حصر السلاح" هو شأن لبناني داخلي، لكن طهران لا تعتزم أن تترك حزب الله وحده فريسة لكماشة التطويق حوله من الداخل والخارج، وكأنها تقول للأميركي أولاً إن الاستمرار بمحاولة نزع الأوراق الإقليمية من على الطاولة لم يحن بعد، وإن لا حكومة نواف سلام، ولا نظام أحمد الشرع، ولا إسرائيل بالطبع، سيسمح بإطلاق أيديهم بحرية لاستكمال ضرب محور المقاومة.
هذه رسالة شديدة الحساسية في هذه اللحظة الإقليمية، بعدما قدم لبنان التنازل المتعلق بـ"حصر السلاح"، من دون أن يحصل، كما يقول خطاب المقاومة، على أي ضمانات موثوقة من الأميركيين، وبات ينتظر ما سيحمله الموفد الأميركي باراك إلى بيروت من الإسرائيليين فيما يتعلق بالمطالب اللبنانية البديهية: الانسحاب من النقاط الخمس التي لا تزال إسرائيل تحتلها؛ إطلاق سراح الأسرى والمخطوفين اللبنانيين؛ ووقف الانتهاكات جواً وبراً وبحراً للسيادة اللبنانية والاعتداء على القرى والمناطق ومدنييها.
هناك نقطة تصادم واضحة تلوح في الأفق، لأن الإسرائيلي، كما يرى مراقبون لبنانيون، يريد استغلال مرحلة ما بعد "حرب الإسناد" وحرب غزة لإعادة فرض قواعد اشتباك جديدة، لا على لبنان وحده، (وقد فرضها في سوريا كما يبدو) وإنما في أنحاء المنطقة وصولاً إلى إيران نفسها، ما ينذر بالاشتباك الأكبر، أو تكرار سيناريو حرب الأيام الـ12 بين طهران وتل أبيب.
وبينما جرى تكليف الجيش اللبناني بإعداد خطته لـ"حصر السلاح" بيد الدولة، لتقلي حكومة سلام كرة النار من بين يديها إلى حضن المؤسسة العسكرية، فإن كل عناصر التوتير الخارجية هذه قد تدفع إلى حسابات خاطئة على المستوى اللبناني أو على المستوى الإقليمي، ذلك أن إيران وإسرائيل واللاعبين المحليين قد ترى ما تعتبره فرصة سانحة لفرض إراداتها أو مصالحها بالقوة.
وحتى الآن، تقول المصادر، إن الجيش اللبناني أبلغ القيادة السياسية في بيروت، وأيضاً حزب الله، أنه ليس معنيّاً بالسير في إعداد خطة تقود إلى تصادم واهتزاز الشارع الداخلي.
وبينما يتساءل البعض عمّا إذا كانت القيادة العسكرية لن تتجاوب مع أوامر السلطة السياسية، أو ستجد وسيلة مرضية لمنع الاقتتال الأهلي، لكن تجارب التاريخ اللبناني الحديث لا تطمئن، والأخطاء يمكن أن تتحول إلى قضايا محقة من وجهة نظر كل طرف، والقضايا المصيرية قد تشتعل بسبب شرارات صغيرة تعيد تكرار حادثة مثل "بوسطة عين الرمانة" في العام 1975 والاحتراب اللبناني طوال 15 سنة بأشكال وأدوات مختلفة، وهي حرب بالتأكيد سيكون لها تأثير "الدومينو الإقليمي".