"نيجيرفان بارزاني رئيساً في قصر السلام".. أي مستقبل يرسمه هذا السيناريو للعراق؟
تحليل خاص لوكالة شفق نيوز
في عالم السياسة العراقية المزدحم بالأسماء العابرة والتحالفات القصيرة العمر، يظل اسم نيجيرفان بارزاني استثناءً هادئاً. فالرجل الذي يُعرَف في بغداد أكثر باعتباره "المفاوض الكوردي" ورئيس إقليم كوردستان، بدأ يُذكَر في الأسابيع الأخيرة في سياق مختلف تماما ليس كوسيط بين أربيل والعاصمة، بل كاحتمال لرئاسة الجمهورية نفسها.
هذا التحول في طريقة طرح اسمه لا يعكس مجرد فضول سياسي عابر، بل يشير إلى نقاش أعمق حول ما إذا كان النظام الذي تشكل بعد 2003 ما يزال قادراً على إنتاج نفس الوجوه والقواعد، أم أن لحظة إعادة النظر في من يجلس في قصر السلام قد اقتربت أكثر مما تعترف به البيانات الرسمية.
منذ عام 2003 اعتاد العراقيون صيغة ثابتة لتقاسم الرئاسات تستند إلى موازين طائفية وقومية لا إلى صناديق الاقتراع وحدها. المألوف داخل البيت الكوردي أن يكون قصر السلام في بغداد من نصيب الاتحاد الوطني، مقابل احتفاظ الحزب الديمقراطي الكوردستاني برئاسة الإقليم وثقله التنفيذي في أربيل. أي كسر لهذا الترتيب لا يعني تبديل أسماء فحسب، بل إعادة توزيع لأثقال تاريخية بين السليمانية وأربيل، وبين الشركاء في بغداد أنفسهم، في لحظة تبدو فيها التوازنات القديمة أقل صلابة مما كانت عليه قبل عقدين.
في الأثناء، تخرج أصوات من خارج الإقليم، بعضها من الجنوب الشيعي وبعضها من المدن السنيّة، لتتحدث علنا عن نيجيرفان بارزاني بوصفه خيارا محتملا لرئاسة الجمهورية.
سياسيون يرون في شبكة علاقاته فرصة لتخفيف التوتر مع الجوار وإعطاء المنصب "الشرفي" بعداً آخر، وناشطون يتعاملون مع اسمه باعتباره تجسيدا لنموذج إدارة مختلف عمّا عرفوه في بغداد. في المقابل، يتمسّك الاتحاد الوطني بما يعتبره استحقاقا تاريخيا، ويراقب أي إشارة إلى أن المنصب يمكن أن يغيّر وجهته نحو الحزب المنافس.
وبهذا الخصوص يرى رئيس مركز التفكير السياسي العراقي إحسان الشمري أن أي تغيير مقبل لن يمسّ معادلة تقاسم المناصب بين المكوّنات بقدر ما قد يذهب إلى داخل البيت الكوردي نفسه، عبر انتقال منصب رئاسة الجمهورية من الاتحاد إلى الحزب الديمقراطي.
في هذا الإطار، تبدو حظوظ نيجيرفان بارزاني، برأيه، هي الأرجح، لكونه وجه الحزب الأقوى تمثيلاً في الإقليم، وشخصية تحظى بقبول وطني عابر للمكوّنات، عُرفت بإدارة التوازنات وحل الأزمات بين بغداد وأربيل، وبالمساهمة في فك اختناقات عديدة على مستوى علاقات العراق الخارجية، ما يجعله مرشحاً قادراً على جمع طيف واسع من القوى السياسية حوله.
بين هذه المحاور يبرز سؤال لا بوصفه طرحاً افتراضياً بل كاختبار سياسي حقيقي لما تبقى من أعراف ما بعد 2003. هل يسمح ميزان القوى في بغداد وأربيل والسليمانية بتحويل "أبو إدريس" من حَكَم في نزاعات الإقليم مع بغداد إلى رئيس للجمهورية، أم أن الحديث عنه سيبقى جزءا من لعبة الضغوط المتبادلة لا أكثر؟
ففي إحدى أمسيات الخريف السياسي الملبّد في العاصمة، بدا أن السؤال خرج من نطاق التحليلات إلى لسان لاعب فعلي في المعادلة. في حوار متلفز، أعلن محافظ البصرة أسعد العيداني أنه إن حصل على رئاسة الوزراء سيضع ضمن برنامجه اختيار نيجيرفان بارزاني رئيسا للجمهورية ومحمد الحلبوسي لرئاسة البرلمان، مؤكدا أنها رغبته الشخصية التي يعلنها على الهواء.
في بلد اعتاد أن تُحسم المناصب العليا خلف الأبواب المغلقة وبين زعماء الكتل، كان لافتا أن يأتي هذا المقترح من سياسي شيعي جنوبي يرى أن البصرة أصبحت أحد أعمدة القرار، وأن من حقها أن تسمي شريكها في رئاستي الجمهورية والبرلمان معاً.
السيناريو ما زال في حسابات التفاوض، لكن مجرد تداوله بهذا القدر من العلنية يعيد فتح ملف ظل حاضرا في تقارير مراكز البحث وغرف التفاوض سنوات طويلة، ملف انتقال نيجيرفان بارزاني من رئاسة الإقليم إلى كرسي رئاسة الجمهورية في بغداد، وما يمكن أن يترتب على ذلك من إعادة رسم لقواعد اللعبة في العراق.
ما بعد 2003
منذ سقوط نظام صدام حسين، أُرسيت معادلة غير مكتوبة لتقاسم السلطة في العراق تقوم على أن يكون رئيس الوزراء من المكون الشيعي، ورئيس البرلمان من المكون السني، ورئيس الجمهورية من المكون الكوردي.
داخل البيت الكوردي نفسه نشأ عرف موازٍ بين الحزبين الكبيرين. فالرئاسة في بغداد من حصة الاتحاد الوطني الكوردستاني، مقابل احتفاظ الحزب الديمقراطي الكوردستاني برئاسة إقليم كوردستان ونصيب الأسد من الحكومة هناك. ومنذ إقرار دستور 2005 جاء كل رؤساء العراق من الاتحاد الوطني، بدءا بجلال طالباني، مرورا بفؤاد معصوم وبرهم صالح، وصولا إلى عبد اللطيف رشيد.
هذا الترتيب لم يكن بلا كلفة، لكنه ضمن للأحزاب الكوردية مقعدا ثابتا على طاولة الحكم في بغداد، وفتح لها هامشا للتفاوض على ملفات النفط والموازنة والفيدرالية.
اليوم، ومع تصاعد نفوذ الحزب الديمقراطي في الإقليم وتقدمه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في كوردستان والعراق معا، تتعرض تلك المعادلة لاختبار جديد.
من بارزان إلى قصر السلام
نيجيرفان إدريس بارزاني، المولود عام 1966 في بارزان، يحمل سيرة سياسية ممتدة على مدى أكثر من ربع قرن في الواجهة التنفيذية الكوردية. شغل منصب نائب رئيس حكومة الإقليم في التسعينيات، ثم تولى رئاسة الحكومة في أكثر من كابينة بين 1999 و2009، وعاد إليها في 2012 حتى 2019، قبل أن ينتخبه برلمان كوردستان رئيسا للإقليم في حزيران 2019.
خلال هذه السنوات نسج الرجل صورة السياسي الهادئ الذي يفضّل التفاوض على التصعيد، وأدار علاقات معقدة مع بغداد وأنقرة وطهران وواشنطن في لحظة تمدد تنظيم داعش، والاستفتاء على استقلال الإقليم في 2017 وتداعياته.
بالنسبة لكثير من الكورد، ارتبطت بعض فترات حكمه بما يشبه العقد الذهبي، حيث رافق الطفرة العمرانية والانفتاح الاقتصادي في الإقليم، وخلق صورة بوصفه نموذج استقرار نسبي مقارنة بعواصف بغداد.
الحديث عن نيجيرفان رئيسا للعراق لم يولد مع تصريح اسعد العيداني. في أيار/ مايو 2020 نشرت وكالة شفق نيوز تقريرا تحليلياً حمل عنوان: "نيجيرفان بارزاني رئيسا لجمهورية العراق"، ناقش السيناريو من زاوية قانونية وسياسية. التقرير توقف مثلاً عند إتقانه اللغة العربية، قبل أن يستعين برأي قانوني أكد أن الدستور لا يشترط إتقان العربية للرئيس، وأن الشروط تقتصر على الجنسية والعمر والكفاءة وعدم الحكم بجناية مخلة بالشرف. بهذا المعنى، لا توجد عقبة دستورية أمام ترشح رئيس الإقليم للمنصب الاتحادي، بل عقبات سياسية صرفة تتعلق بتوازنات القوى في بغداد وأربيل والسليمانية.
في نيسان 2021، ظل السؤال يلاحقه حتى في مقابلة مطولة مع قناة الشرقية. المذيع سأله إن كان العراقيون سيرونه في قادم العملية السياسية رئيسا للجمهورية، فكانت إجابته لافتة. قال نيجيرفان بارزاني لم لا فأنا أيضا عراقي، ويسمح الدستور العراقي والقانون العراقي بهذا، قبل أن يستدرك بأنه لم يفكر في الأمر في تلك المرحلة، وأن رئاسة الجمهورية شرف كبير، وهو مستعد لخدمة البلد في أي موقع يمكن أن يقدم فيه فائدة.
هي إجابة تفتح الباب من حيث المبدأ، لكنها تغلقه من حيث التوقيت. لا برفض قاطع ولا حملة مبكرة، بل تموضع في منطقة رمادية تشبه طريقة الرجل في تجنب الصدام المباشر.
الجديد هذه المرة أن دعوات من قبل أوساط سياسية وأخرى شعبية خارج الإقليم تدعم هذا التوجه، لا من كتاب كورد أو محللين قريبين من الحزب الديمقراطي.
ما الذي يحمله نيجيرفان إلى قصر السلام؟
إذا ما تحولت الفرضية إلى واقع، سيرث رئيس الإقليم في بغداد منصبا يُنظر إليه غالبا على أنه بروتوكولي أو شرفي، لكنه في الواقع يحمل ثلاث أدوات تأثير رئيسية.
الأداة الأولى هي شرعية الحَكَم. فالرئيس، وإن كان بلا صلاحيات تنفيذية واسعة، يملك حق تكليف رئيس الوزراء، وتوقيع القوانين، والعودة إلى المحكمة الاتحادية في الأزمات الدستورية، وهي صلاحيات تتضاعف قيمتها في نظام مفرط في التوازنات مثل العراق.
الأداة الثانية هي شبكة العلاقات. نيجيرفان بارزاني بنى لنفسه على مدى سنوات شبكة ممتدة مع عواصم إقليمية ودولية، من طهران إلى أنقرة مرورا بعواصم عربية وأوروبية وداخل البيت البيضاوي، حيث أشاد به الرئيس ترمب في أكثر من محفل، كما ظهر ذلك ايضاً في حضوره المنتظم في منتديات إقليمية مثل حوارات طهران ومؤتمرات مراكز الأبحاث، حيث يقدم نفسه باعتباره شريكا يؤمن بالدستور والفيدرالية والحوار لتجاوز أزمات العراق.
الأداة الثالثة هي خبرة إدارة كيان شبه مستقل داخل دولة مأزومة. من موقع رئاسة حكومة الإقليم ثم رئاسته، عاش نيجيرفان بارزاني تفاصيل التماس اليومي بين أربيل وبغداد في ملفات النفط والموازنة والحدود والمناطق المتنازع عليها، كما قدم نفسه في خطابه الأخير صبيحة يوم الانتخابات التشريعية باعتباره مؤمنا بأن مفتاح حل المشاكل يكمن في بغداد، وأن العراق ملك لجميع مكوناته، وأن كل مواطن يجب أن يعيش بكرامة ورفاهية.
في قصر السلام، يمكن لهذه الخبرات أن تتحول إلى برنامج غير مكتوب لرئيس يسعى إلى ردم الهوة بين النص الدستوري وتطبيقه، وإلى تقليص المسافة بين الإقليم والمركز، لكن ذلك يفترض أن يملك مساحة مناورة كافية داخل معادلة الحكم، وألا يُختزل دوره في تمثيل كوردستان فقط.
لكن، أي سيناريو واقعي لوصول نيجيرفان بارزاني إلى رئاسة الجمهورية يمر أولا بجدار داخلي كوردي. الاتحاد الوطني الذي خسر الكثير من نفوذه في الإقليم ما زال يرى في رئاسة الجمهورية آخر معاقله الرمزية في الدولة الاتحادية، ويقدم نفسه حارسا لتوازن دقيق يحول دون تقدم الحزب الديمقراطي لكل مفاصل القوة الكوردية.
في المقابل، يراهن الحزب الديمقراطي على ثقله الانتخابي والتحالفات التي نسجها مع قوى شيعية وسنية في بغداد ليقول إن الوقت حان لتحديث العرف، وأن الرئاسة يمكن أن تكون لهذا الحزب كما كانت رئاسة الإقليم، وخاصة أن صراعات 2022 حول ترشيح شخصية من الديمقراطي للمنصب سبق أن عطلت تشكيل الحكومة لأشهر.
من زاوية بغداد، يمكن لنيجيرفان بارزاني رئيسا للجمهورية أن يمثل فرصة لإعادة وصل ما انقطع مع الإقليم، خصوصا في ظل حكومة مركزية تبحث عن مخرج من أزمات تصدير النفط، وضغوط واشنطن وطهران على حد سواء. شخصية كوردية تحظى بعلاقات متوازنة مع الجانبين الأمريكي والإيراني قد تكون مفيدة لرئيس وزراء يريد المحافظة على هامش حركة أكبر.
أما في أربيل والسليمانية، فسيناريو انتقال نيجيرفان بارزاني إلى بغداد يطرح أسئلة حول يخلفه في رئاسة الإقليم، وكيف يعاد توزيع السلطة داخل الحزب الديمقراطي.
هل يريد نيجيرفان بارزاني المنصب فعلاً؟
في كل مرة يُطرح فيها اسمه للرئاسة، يحرص نيجيرفان بارزاني على التذكير بأن رئاسة الجمهورية شرف كبير، وأنه مستعد لخدمة العراق في أي موقع، لكنه يضيف أنه لم يفكر في المنصب في تلك المرحلة، وأن الأولوية بالنسبة له هي حل مشاكل الإقليم في إطار العراق.
هذا الخطاب يتسق مع طبيعة قراره داخل الحزب. فالرجل لا يتحرك عادة خارج السقف الذي ترسمه المصلحة الكوردية خاصة، والعراقية عامة، بعبارة أخرى، لن يكون السؤال في الأسابيع المقبلة هل يريد أن يصبح رئيسا للجمهورية، بقدر ما سيكون هل ترى القيادة الكوردية أن اللحظة مواتية لكسر العرف مع الاتحاد الوطني، وأن لديها الشركاء الكافيين في بغداد لتمرير هذا التحول من دون انفجار داخلي.
ما يلفت في هذا السيناريو ليس حظوظ نيجيرفان بارزاني أو مدى نجاحه، بل طبيعة الأسئلة التي يطرحها على النظام السياسي العراقي. بمجرد أن يصبح انتقال رئيس إقليم كوردستان إلى رئاسة الجمهورية الاتحادية موضوعا للنقاش الجدي، يعني أن العرف الكوردي الداخلي لم يعد خطا أحمر، وأن قوى شيعية وسنية مستعدة للنظر إلى المنصب بوصفه ورقة تفاوض أوسع من إطار الاتحاد الوطني.
في المحصلة، فإن تفكر الطبقة السياسية في بغداد والشارع العراقي في رئيس للجمهورية يأتي من أربيل بهذه المواصفات، يعني أن البلد يختبر حدوده مع الأعراف التي قيدته عشرين عاما، ويتحول إلى ورقة تفاوض فعلية، وأن مجرد طرحه يكشف أن معادلة ما بعد 2003 لم تعد مُحصّنة كما كانت. ومجيء وجه تجربة جديدة لرئاسة عراق تغير قواعد اللعبة.