رسالة وداع وتقدير
لقمان عبد الرحيم الفيلي
"ليست كل رحلة سوى بداية جديدة" – تس. س. إليوت
أُسدِل الستار على فصلٍ من مسيرتي الدبلوماسية – الشخصيّة والوطنيّة – في رحلةٍ بدأت من برلين، وامتدّت عبر سنواتٍ أربعة من العمل سفيرًا لجمهوريّة العراق لدى ألمانيا الاتحاديّة.
لا يمكن أن يكون تمثيل العراق في الخارج مجرّد مهمّةٍ بيروقراطيّةٍ أو ممارسةٍ رسميّة، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لوصفٍ عميقٍ للعراق وظروفه. إنّه وطنٌ جريح، لكنّه مفعمٌ بالأمل؛ وطنٌ ما زالت هويّته المركّبة تتطوّر، وشعبه يتطلّع إلى الاستقرار والكرامة، في وقتٍ لا يزال فيه العالم ينظر إليه من خلال عدسة مأساته، لا من خلال إمكاناته.
لقد قدّمت لي ألمانيا بيئةً فريدةً للتأمّل والمتابعة؛ بيئةٌ تحمل إرثًا تاريخيًّا (أحيانًا مؤلمًا) ووعيًا وطنيًّا متقدّمًا، في سياقٍ يجعلها بلدًا ذا دروسٍ مثنى لكلّ بلدٍ كالعراق. من الناحية الجغرافيّة، ألمانيا لم تكن فقط مساحةً للتعلّم، بل أيضًا ميدانًا للتحدّث والنقاش، وللأفكار.
السياسة الألمانية كانت منفتحة ومتعدّدة الساحات، والعمل في هذا السياق أتاح لي فهمًا أعمق لواقعٍ ملموس، لا من خلال الرؤية فقط، بل عبر نضوج المؤسسات وتكامل الأدوار بين السلطات، والحرص على المصلحة الوطنية، لا سيّما بعد توحيد الألمانيتين، والتوازن الدقيق بين الفدرالية والاستقلالية.
هذه ليست دروسًا في الكتب، بل حقائقٌ حيّةٌ في ترسيخ الصمود الوطني، ودور المؤسسات في حماية الديمقراطية، وهي أدواتٌ إرشاديّةٌ لا تزال بلدانٌ مثل العراق في طور تجاوز إرثها الثقيل واقتصادها المتعثر في سعيها لتوفيرها.
في الوقت نفسه، تزامن وجودي في ألمانيا مع تحوّلاتٍ كبرى شهدها العالم، حيث واجهت الدول – ومنها العراق – تحوّلاتٍ سياسيّة وأمنيّة عميقة. وحرصت ألمانيا على التكيّف مع عالمٍ أكثر اضطرابًا، حيث ترتفع فيه الأسئلة الجوهريّة حول الهويّة، والمسؤوليّة، وتُطرح فيه تحوّلاتٌ ديموغرافيّةٌ واستقطاباتٌ داخليّةٌ، وتُعالج فيه أسئلةٌ معقّدةٌ حول النسيج الاجتماعي، والاستقرار، والخنادق الدوليّة.
لم تكن هذه التحوّلات قادرة على تحديد مسارها فقط من خلال المؤسسات، بل أيضًا من خلال معيار قوّة الصداقات التي تكشف عن مدى صدقها في النظام الدولي الجديد. وقد أتيحت لي فرصة المتابعة في هذا السياق، من خلال موقعي الدبلوماسي في برلين، حيث كتبت بعض المقالات والأبحاث التي غادرت فيها ألمانيا بمحتوى نقديٍّ عميق.
لقد تركت ألمانيا بطريقتها في التفكير، أكّدت لي أنّ مصير الأمم لا يُحدّد فقط بإرادة الشعوب، بل أيضًا بقدرتها على مواجهة الذات، والاستثمار في الإنسان، والتفاعل مع العالم على أسس المبادئ والمصالح المشتركة.
شكري الخالص لأصدقاء العراق من الألمان في الحكومة والبرلمان، وفي الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني، على الحوارات التي جمعتنا، والتي كانت صادقةً في نيتها تجاه شعب العراق، لم أبدأها من باب المجاملة، بل من احترام كرامتها، وفهمها الذي ولد شراكةً نأمل أن تتوسع، ولا تقتصر على البُعد السياسي فقط.
شكري وتقديري لزملائي في السلك الدبلوماسي العربي، الذين خضنا معهم نقاشاتٍ صعبةً بروحٍ واعية، وثبتنا مواقف مشتركة في التعبير عن هموم شعوبنا، خاصةً في التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكانت مواقفنا الأخلاقية ميزانًا يوجّه خياراتنا حتى في أصعب البيئات الدبلوماسيّة، وبروحٍ ممكنةٍ تتجاوز الانفعال.
إلى أبناء الجالية العراقية في ألمانيا وأوروبا: أنتم ثروة العراق في الخارج. أنتم الجسر الحيّ الذي يربط الوطن بموارده وأفكاره، وأنتم البوصلة التي تتّجه نحو تجديد العراق من خلال أحلامكم، وتحملكم لذاكرة العراق، وتفاعلكم في المجتمع الألماني من خلال التعليم، والمشاركة المدنية، والمساهمة في الحياة العامة. تعلّمت من الكثير منكم، واستلهمت من صمودكم، وارتباطكم بالوطن الجديد، وقبولكم لذكرى العراق وأحلامه.
إلى زملائي الأعزّاء في فريق السفارة، بكلّ درجاتكم ومهامكم، شكرًا لتفانيكم، وهمّتكم التي حقّقت ما لم أحققه دونكم. أتمنّى لكم التوفيق في مسيرتكم المقبلة.
هذه الرسالة ليست وداعًا، بل بداية فصلٍ جديدٍ في خدمة العراق، وشعبه، وسيادته. لا تُشيَّع فيها الدبلوماسية، بل تُكتب فيها القيم، وتُحفظ فيها الذاكرة، ويُمثّل فيها الوطن بفخرٍ في زمن التحوّلات.
أحمل معي تجربتي إلى جانب ترتيبٍ دوليٍّ آخر متعدد الأطراف، ضمن مهمّةٍ دبلوماسيّةٍ جديدة، آمل أن تواصل تمثيل كرامة العراق، بعون الله، وبتواضعٍ مما منحتني إيّاه برلين من صداقاتٍ، وقصصٍ، وآمال.
سيبقى العراق في القلب، ويستمر الطريق نحو السلام والازدهار، بدعم أصدقائه، وبعزيمة أبنائه.
﴿وما توفيقي إلا بالله﴾ – هود: 88
لقمان عبد الرحيم الفيلي سفير جمهورية العراق