رحل الغزالي وبقي قبره شاهداً على الاهمال
امير الداغستاني
من المؤلم أن يُطوى ذكر رموز صنعت مجد العراق الثقافي والفني ، وان تُترك سيرهم مع الزمن لتكون في طي النسيان ، دون ان ينالوا ما يليق بمكانتهم من تخليد في ذاكرة الوطن ، في الوقت الذي تحتفي فيه الأمم جميعها بمختلف توجهاتها وامكاناتها برموزها ، وتجعل من قبورهم مزارا وقبلة يقصدها الجميع ، فهي جزء من الذاكرة الجمعية للشعوب والأمم ، لكننا في العراق نجد العكس تماماً ، فالنسيان والأهمال هو القاسم المشترك للأرث الحضاري ، وكأن التاريخ لا يعني لنا شيئاً .
خذوا مثالاً الفنان الكبير ناظم الغزالي ، سفير الاغنية العراقية وفارسها ، ذلك الصوت العراقي الأصيل الذي ما زال يصدح في ذاكرة الفن العربي حتى اليوم، وتتلقف اغانيه الأجيال بمختلف الأعمار ، هذا الاسم الذي ملأ الافاق حباً ووجعاً وجمالاً ، يرقد اليوم في قبرٍ منزوٍ متآكل ومهمل ، تحيط به المقابر من كل جانب ، ولا يوجد ما يميزه منها ، وحتى اسمه على شاهد قبره قد محاه الزمن ، وكأن العراق قد نسي أحد أنقى أصواته على مر تاريخ الاغنية الحديثة .
في المقابل ، نرى في بلدانٍ أخرى كيف يحتفى برموزها من المبدعين وكيف تُخلَّد أسماؤهم وجميع ما يخصهم من تراث مثل أم كلثوم ، وعبد الحليم حافظ ، ومحمد عبد الوهاب ، وفريد الأطرش ، فتتحول قبورهم الى مزارات ثقافية فخمة ، تستقطب الزوار من شتى أنحاء العالم ، يوثقون زيارتهم بالصور ويستمدون الالهام من تاريخهم الفني المشرق .
وهنا لابد أن تطرح تساؤلا تتبعه علامة استفهام كبيرة : اليس من حق رموزنا علينا ان نحفظ لهم ذكراهم كما حفظوا لنا تراثنا ؟ أين دور وزارة الثقافة والسياحة والآثار من هذا الغياب الموجع ؟ كيف تُهمل قبور من أناروا وجداننا ؟ وشكلوا جزءاً مهماً خالداً في ذاكرة الأمة .
والغريب والموجع في الامر ان هذا الاهمال لا يخص ارثاً بعينه او شخصية محددة ، بل يشمل جميع مواقعنا الأثرية الخالدة ، من الزقورة وآثار بابل الخالدة الى آثار بغداد وسامراء وقلعة كركوك ومعالم نينوى والبصرة وكلها تقبع تحت الاهمال والاندثار .
ان العراق ليس بلداً عادياً ، بل متحفاً مفتوحاً للتاريخ الانساني كله ، وبمقدار الثروات الطبيعية التي يمتاز بها هناك ثروات انسانية شكلت مناراً أمميا ، وقبلة تتجه اليها الاديان جميعاً ، فكانت المهد الاول للحضارة ، ومع ذلك لا يزال يعاني من غياب الرؤية الثقافية التي تحفظ ذاكرته وتكرّم رموزه .
ويبقى السؤال الموجع يتردد ولا من مجيب : هل كتب على رموز العراق ان يُخلّدوا في الوجدان العربي ، بينما يكون نصيبهم النسيان في وطنهم .
وهل تنطبق المقولة القائلة "لا كرامة لنبي في وطنه" على ما يعانيه رموزنا من اهمال ؟ .. نعم فما نراه في الواقع من صور الاهمال المتنوعة ، يؤكد ان الكرامة تكاد تغيب ، لكنها كرامة يمكننا استعادتها اذا اردنا حقاً ان نحترم ذاكرتنا ونصون رموزنا .