النصر في زمن الهزائم .. مأساة الوعي العربي في غزة
جلال شيخ علي
في زمن انقلبت فيه المفاهيم، صار النحيب نشيدَ فخرٍ، والدمار وسامَ بطولة، والخرابُ عنوانَ انتصار.
إنّ ما نراه اليوم من تباهٍ عربي وإسلامي بما يسمّى “النصر في غزة” لا يكشف عن شجاعة ميدانية ولا عن إرادة صلبة بقدر ما يفضح عجزا مزمنا في التفكير، وانكساراً عميقاً في الوعي الجمعي.
كيف يمكن لعقل سليم أن يحتفل بنصر قوامه 66 ألف قتيل، ومدينة أُزيلت من الوجود، وشعب كسرت عظامه وبيوته وأحلامه، ثم يقال له: لقد انتصرت؟
إنّ هذه العقلية المريضة التي تعيش على بقايا الخطابات الحماسية لا ترى في الأرقام المروّعة سوى “قرابين النصر”.
فحين تُباد عائلات بأكملها، وتُسحق البنية التحتية، وتتحول غزة إلى أطلال رمادية، يخرج علينا البعض ليهتفوا بأنّ “الأمة انتصرت”. أيّ نصر هذا؟ أهو نصر الدماء المهدورة أم نصر الركام المتناثر؟
أهو نصر الجياع والمشردين الذين لا يجدون سقفاً ولا مأوى؟
والأدهى من ذلك، أنّ الأحزاب الإسلامية في مختلف أنحاء العالم، وهي التي كان يفترض أن تكون صوت الضمير الإنساني، سارعت إلى وصف وقف إطلاق النار بأنه “نصر من الله”، وكأنهم وجدوا في لحظة الصمت تلك فرصة لتلميع الشعارات وستر العجز. وكأنّ توقيع الاستسلام، بعد كل هذا الثمن الباهظ، إنجاز سياسي يضاف إلى رصيد “الانتصارات الإلهية” التي لا نرى من نتائجها سوى المزيد من القبور والمآسي.
إنّ الوعي العربي يعيش اليوم أزمة وجودية لا تقل خطورة عن المأساة الميدانية نفسها.
فحين يفرغ النصر من معناه الحقيقي، ويختزل في بيانات حزبية وصور مموّهة على الشاشات، تصبح الهزيمة ثقافة جماعية تغلفها الشعارات، ويعاد تسويقها على أنها فخر وعزّة.
فإذا كان هذا الخراب نصرًا، فكيف تكون الهزيمة إذن؟
لقد آن الأوان لأن نعترف بأنّ الانتصار لا يُقاس بعدد الشهداء بل بعدد من بقي واقفا يبني من جديد، وأنّ الهزيمة الحقيقية هي أن نظل نقنع أنفسنا بأنّ الألم مجد، والدم فخر، والدمار قدر. ما لم نكسر هذا الوهم الجماعي، سنظل نغني للنصر في كل مرة يدفن فيها جيل جديد تحت الركام.