مأساة الفیلیین.. شرارة التمییز وموت الذاکرة
نوري بیخالي
من المواطنة إلى العدم
يُعتبر التطهير العرقي الذي تعرض له الكورد الفيليون في العراق واحداً من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ المعاصر للمنطقة. هذه العملية الشنيعة التي امتدت عبر عقود من الزمن وبلغت ذروتها في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تمثل صفحة مؤلمة من صفحات التاريخ العراقي الحديث. وکان الهدف من هذە الجریمة المنهجیة التي هي جزء لا يتجزأ من عمليات الإبادة الجماعية التي استهدفت الکورد في العراق طوال القرن الماضي، طمس الهویة القومیة للکورد الفیلیین وتجریدهم من حقوق المواطنة.
أبناء الحدود المنسيون
الكورد الفيليون هم مجموعة عرقية كوردية تنتمي إلى المذهب الشيعي، وتتميز بلغتها الكوردية الخاصة (اللهجة الکلهوریة) وتقاليدها الثقافية المميزة. استوطنت هذه المجموعة منذ قرون في المناطق الحدودية بين العراق وإيران (بغداد، واسط، ديالى، ميسان والبصرة في العراق. لورستان، کرماشان وایلام في إیران)، وأما فیلیي العراق كانوا يشكلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العراقي، حيث اندمجوا في المجتمع العراقي وساهموا في بنائه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
تميز الكورد الفيليون بنشاطهم في التجارة والحرف، وكان لهم حضور بارز في الأسواق التجارية في بغداد وباقي المدن العراقية. كما برز منهم شخصيات مهمة في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، مما جعلهم جزءاً أساسياً من تاريخ العراق الحديث.
جریمة الهویة
بدأت المحن الحقيقية للكورد الفيليين مع وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق عام 1968، وتفاقمت بشكل دراماتيكي في عهد صدام حسين الذي تولى السلطة الفعلية في أواخر السبعينيات. كانت السياسات العنصرية للنظام البعثي تستهدف كل المكونات غير العربية في العراق، لكن الكورد الفيليين واجهوا اضطهاداً مضاعفاً بسبب هويتهم الثنائية القومیة والمذهبیة.
تزامنت هذه السياسات مع توتر العلاقات العراقية-الإيرانية، حيث استُغل وجود الكورد الفيليين على الحدود كذريعة لاتهامهم بالولاء لإيران، رغم أنهم كانوا مواطنين عراقيين أصليين. هذا الوضع الجيوسياسي المعقد جعلهم ضحايا لسياسة “التعريب” والتطهير العرقي التي انتهجها النظام العراقي.
مراحل التطهير العرقي
مرت عملیة التطهیر العرقي للفیلیین بثلاثة مراحل مأساویة، انطلاقا من التمییز وتضییق الخناق الی مرحلة التهجیر القسري، انتهاءا بالعملیة الوحشیة من خلال سیاسة الابادة المنهجیة، حیث یمکن تلخیصها کالأتي:
أولاً:
شرارة التمييز و تساقط الحقوق (1968 - 1975)
بدأت السياسات التمييزية ضد الكورد الفيليين بشكل تدريجي من خلال فرض قيود على حقوقهم المدنية والسياسية. تم منعهم من شغل مناصب حكومية مهمة، وفُرضت عليهم قيود في التعليم والعمل. كما بدأت حملات مصادرة الممتلكات تحت ذرائع مختلفة، وتم تجريد الكثير منهم من الجنسية العراقية بحجة عدم إثبات أصولهم العراقية.
ثانياً:
شاحنات الموت ورحلة اللاعودة (1975 - 1980)
مع تصاعد التوترات الإقليمية، خاصة بعد اتفاقية الجزائر عام 1975، تكثفت سياسات التهجير القسري. بدأت الحكومة العراقية بترحيل عشرات الآلاف من الكورد الفيليين إلى إيران، حيث تم نقلهم في شاحنات وقطارات في ظروف إنسانية مأساوية. كان يُسمح لهم بحمل أمتعة محدودة فقط، بينما تُصادر جميع ممتلكاتهم من عقارات ومحال تجارية وأموال.
ثالثاً:
صمت آخر صوت (1980 - 1988)
خلال الحرب العراقية-الإيرانية، وصلت عمليات التطهير العرقي إلى ذروتها الدموية. تم اعتقال آلاف الشباب الكورد الفيليين وإرسالهم إلى معتقلات سرية، حيث تعرضوا للتعذيب والقتل. كما تم تنفيذ عمليات إعدام جماعية، واختفاء قسري لآلاف الأشخاص الذين لم تُعرف مصائرهم حتى اليوم.
استخدم النظام العراقي أساليب وحشية في هذه العمليات، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية في بعض المناطق الكوردية، والتي أثرت أيضاً على المدنيين الكورد الفيليين في المناطق الحدودية.
أرقام تبكي
تشير التقديرات إلى أن عدد ضحايا التطهير العرقي ضد الكورد الفيليين يتراوح بين (100,000) إلى (200,000) شخص، منهم عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين، وأكثر من (150,000) مهجر قسرياً. هذه الأرقام تجعل من هذه الجريمة واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في المنطقة خلال القرن العشرين.
موت الذاكرة
لم تقتصر آثار التطهير العرقي على الخسائر البشرية فحسب، بل امتدت لتشمل تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي للكورد الفيليين. تم تشتيت العائلات، وفُقدت التقاليد الثقافية، وتراجعت اللغة الفيلية نتيجة التشتت والتهجير. كما تم تدمير المقابر والمواقع التراثية الخاصة بهم.
أطفال بلا وطن وآباء بلا قبور
عانى الناجون من صدمات نفسية عميقة نتيجة ما تعرضوا له من عنف وتشريد. كما واجهوا صعوبات في الاندماج في المجتمعات التي هجروا إليها قسرا، خاصة في إيران حيث تم ترحيل معظمهم. والأطفال الذين وُلدوا في المنفى نشأوا دون هوية واضحة، محرومين من جنسية أو وطن يعترف بهم واما ابائهم الذین قتلتهم الجلاوزة ودفنوهم بلا اکفان في حفر لا یعلم بها الا اللە، بقوا بلا قبور.
مأساة بلا شهود
رغم فداحة الأبعاد الإنسانية والقانونية للجريمة التي ارتكبت ضدهم، لكن لم يجد الفيليون انذاك آذانا صاغية لصرختهم وعونا لنجدتهم في المأساة التي اصابتهم يوم كانت طاغية بغداد الأمر الناهي الأول والأخير ولم تحظ قضيتهم بالاهتمام المطلوب. لأن السياق الجيوسياسي للحرب الباردة، والحرب العراقية-الإيرانية، والمصالح الاقتصادية للقوى الكبرى مع العراق في وقتها، كلها عوامل ساهمت في طمس وتجاهل هذه المأساة الإنسانية على المستويين الإقليمي والعالمي.
عدالة منقوصة
بعد اسقاط نظام صدام حسین عام 2003، عاد بعض الكورد الفيليين إلى العراق، وسرعان ما بدأت الشخصیات والجمعيات الكوردية الفيلية بنشاطات مدنیة وحملات اعلامیة ودعوات قانونیة للمطالبة بالحقوق الكاملة للناجين، بما في ذلك التعويضات، وإعادة الممتلكات، والاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، وإحياء الذكرى سنوياً، لكنهم واجهوا تحديات جمة في استعادة ممتلكاتهم وحقوقهم. الفساد، والبيروقراطية، والوضع الأمني المتردي، كلها عوامل أعاقت عملية إعادة التأهيل والاندماج. وبالرغم من أن المحكمة الجنائية العراقية العليا التي شكلت بعد 2003 نظرت في بعض القضايا المتعلقة بجرائم النظام السابق واعترفت رسمياً بجرائم الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الكورد الفيليين، لكن العدالة الشاملة لم تتحقق بعد!
لئلا تُنسى الجريمة
التطهير العرقي ضد الكورد الفيليين في العراق يمثل واحدة من أحلك الصفحات في تاريخ المنطقة الحديث. هذه المأساة تذكرنا بأهمية الدفاع عن حقوق ضحایاها وحماية ما تبقی منهم من السياسات العنصرية والتمييزية. كما تؤكد على ضرورة عدم السماح للاعتبارات السیاسیة والایدیولوجیة بالتغطية على هذه الجریمة الشنعاء التي ارتکبت بحق اعرق مکون في تأریخ هذا البلد الذي کان من المفروض بأن یصبح بلد (الأمل والسلام) في حین وبعد مضي اکثر من قرنین، مازال الفیلیون یأملون بين الرماد والسراب وجراحهم لم تندمل بعد.
"صرخة في البرّية!"
إن إحياء ذكرى هذه المأساة وتوثيقها ليس فقط واجباً أخلاقياً تجاه الضحايا وذويهم، بل ضرورة لبناء مستقبل يقوم على العدالة والمساواة واحترام حقوق جميع المكونات. العراق الجديد بحاجة إلى مواجهة هذا التاريخ المؤلم والتعلم منه، لضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي في المستقبل.
إن قضية الكورد الفيليين تظل رمزاً لمقاومة الإنسان للظلم والعنصرية، وتذكيراً دائماً بأن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية يجب أن تكون فوق كل الاعتبارات السياسية والطائفية والعرقية.