الذكرى الخمسون لوداع خانقين..أوّل “الغيث”.. ترحيل
ماجد سوره ميري
في صفحات التاريخ محطات لا يجوز المرور بها مرّ الكرام؛ ليس لأنّها عظيمة في حجمها فحسب، بل لأنّها تحمل في طيّاتها بذور كوارث لاحقة، وآلاما لم تنطفئ جذوتها بعد، رغم توالي السنين؛ فثمة أحداث تبدأ صغيرة في الزمان والمكان، لكنها تكشف بمرور الوقت أنها كانت النواة الأولى لمآس أشمل، تطال الجغرافيا والإنسان معا.
من بين تلك المحطات، تقف جريمة ترحيل القرى الكوردية المحيطة بقضاء خانقين، كإحدى الجرائم التي لا ينبغي أن تُنسى، لا لأنها الأكبر في سلسلة الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي، بل لأنها مثّلت بداية صريحة لسياسة التطهير العرقي، التي ستتوالى فصولها لاحقا في حملات التهجير، والأنفال، والقصف الكيميائي لحلبجة.
الزمان: صباح 17 تشرين الأول 1975
المكان: قرية "دارا" و"خليل فتح الله" - خانقين
الحدث: ترحيل قسري بأوامر عليا.. والمصير: مجهول
في صباحٍ باكر من ذلك اليوم الخريفي، كانت القرية تغفو على سكينة ريفية معتادة، قبل أن تصحو على وقع جنود وأوامر وصراخ، وجنائز لموت لم يقع بعد. حاصرت سيارات "زيل" العسكرية مدعومة بعناصر من الأمن والجيش أطراف القرية، وأُجبر الأهالي على ترك بيوتهم، والركوب في العربات الحديدية الصمّاء، محملين بما خفّ حمله من متاع، ومثقّلين بما لا يُحتمل من وجع الفقد والمصير الغامض.
لم تكن تلك القرية سوى جزء من عشرات القرى الكوردية التي تمّ إفراغها ضمن خطة مُحكمة بدأت مباشرة بعد نكسة آذار 1975، حين انطفأت شعلة الثورة الكوردية بفعل اتفاقية الجزائر بين نظام البعث وشاه إيران، بوساطة كيسنجر، وبرعاية دولية صامتة؛ كانت الخيانة واضحة، والنية مبيتة، والتنفيذ صارما.
خانقين.. المدينة المستهدفة دوما
خانقين، المدينة الكوردية التي صبغتها دماء أهلها بالتضحيات، لم تكن فقط موقعا جغرافيا، بل كانت قلبا نابضا بالهوية الكوردية.. تميّزت بموقعها الاستراتيجي، بثرواتها النفطية، وبمساهمتها في تأسيس الأحزاب والحركات الكوردستانية، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكوردستاني؛ وكانت أيضا من أوائل المدن التي احتضنت الدراسة باللغة الكوردية بعد اتفاقية آذار 1970، قبل أن يعود النظام لسحق كل مكتسباتها حين اشتعلت المواجهات من جديد.
المؤسسة البعثية لم تترك شاردة ولا واردة إلا واستثمرتها في ضرب المدينة وأهلها. فعمدت إلى نقل العمال الموظفين الكورد قسرا، ومحاصرة المدينة اقتصاديا وتعليميا، ليصل الأمر في نهاية المطاف إلى تنفيذ عمليات ترحيل جماعي، أشبه ما تكون بتصفية هادئة لمجتمع بأكمله.
الرحلة إلى المجهول
انطلقت القافلة من خانقين وسط دموع المودّعين ونظرات الذهول والخذلان. سارت العربات بهدوء ثقيل عبر تلال المنطقة نحو الجنوب، بينما كانت عيون المرحّلين ترنو إلى الخلف، حيث تتلاشى معالم قراهم شيئا فشيئا. الخوف كان سيّد الموقف. وعند كل نهر أو واد، كان القلب يحدّثهم بأنهم على وشك أن يُلقوا فيه.
لم تكن الوجهة معلومة، ولم يُجبهم أحد على سؤالهم المتكرر: "إلى أين؟" سوى بالأوامر القاطعة: "اصمتوا.. ستعرفون حين نصل".
وعندما وصلوا أخيرا، كان المكان يُدعى "المدائن" أو "سلمان باك"، حيث نُقلت العوائل إلى باحة ضريح الصحابي الجليل سلمان المحمدي وأواوينه، وبدأت مرحلة أخرى من الترحيل، هذه المرة على شكل تفريق قسري وتوزيع متعمّد في مناطق متفرقة: ناحية الوحدة، منطقة 7 نيسان، قرى الخناسة، الدرعية، معمل طابوق القادسية... لم يُسمح للعائلات بالبقاء معا. كان الهدف واضحا: تفتيت النسيج الاجتماعي، وعزل كل عائلة عن الأخرى، وقطع ما تبقى من وشائج قومية أو إنسانية.
بيوت لا تصلح للعيش.. ولا للبهائم
ما سُمّي بالبيوت المخصّصة لم يكن سوى أكواخ طينية بدائية، بلا أبواب، بلا شبابيك، أرضيتها من الطين غير المستوي، وجدرانها شبيهة بتلك التي يُخزّن فيها التبن؛ ليلة الوصول، كان المطر يهطل بغزارة، والبرد ينهش الأجساد، ولم يكن لدى الأهالي سوى بعض البطانيات القليلة التي استُخدمت لسدّ الفتحات.
من أرض زراعية خصبة، إلى أرض سبخة مالحة، تنبعث منها روائح كريهة تلتصق بالأقدام كالقطران.. كان التحول أشبه بانتقال من الحياة إلى المقبرة.
الإهانة المزدوجة
لم تكن الجريمة فقط في الترحيل، بل في السردية التي أحاطت به. لقد صوّرهم إعلام السلطة وأجهزتها على أنهم "متمردون"، وأن "القيادة" قد عفت عنهم واكتفت بنفيهم بدلا من إعدامهم. هكذا وُوجهوا بنظرات الشك والعداء، وتعرضوا للسرقة، والازدراء، وحتى الإهانة لأسمائهم الكوردية الغريبة على بيئة لا تعرف إلا خطاب السلطة الواحد.
هل كانت هذه مجرد حادثة معزولة؟
الجواب: لا.
كانت تلك الحملة، بكل تفاصيلها، بروفة مبكّرة لما سيتكرّر لاحقا: تسفير الكورد الفيليين، قصف حلبجة، حملات الأنفال، وتذويب الهويات.
كلها بدأت من هنا.. من قرى صغيرة كُتب عليها أن تكون أولى ضحايا سياسة "الاجتثاث القومي"، بذريعة الحفاظ على "وحدة الوطن" التي لا تعترف بتعدديته.
في الختام
ما حدث في خانقين ليس مجرّد ذكرى حزينة، بل وثيقة إدانة مكتملة الأركان، لجريمة تندرج تحت توصيف "التطهير العرقي" وفق القوانين الدولية. والسكوت عنها، أو تجاهلها، هو مشاركة –بصمت– في صناعة النسيان، وهو أشد أنواع الظلم.
فلنعِ الدرس جيدا:
إن أول “الغيث”... ترحيل.