واشنطن تطوي خيامها من العراق وسط عاصفة إقليمية

واشنطن تطوي خيامها من العراق وسط عاصفة إقليمية
2025-08-29T20:44:55+00:00

شفق نيوز- تحليل خاص

أحمد حسين

تسير خطوات الانسحاب العسكري الأميركي من العراق وسط حقول ألغام سياسية وأمنية داخلية وإقليمية ودولية. فتصريحات البيت الأبيض بدت حتى الآن "مطاطة"، تحاول مسك العصا من الوسط أو على الأقل الإيحاء بذلك. أما الداخل العراقي فما يزال منقسماً على نفسه؛ بين مؤيد متحمّس، ورافض قاطع، وأطراف ثالثة تحاول التوفيق بين الاتجاهين.

"البنتاغون" و"صقور الرفض والقبول"

مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية تحدث لمراسل وكالة شفق نيوز إن واشنطن تواصل "مراجعة وضبط" وضع قواتها في العراق "عند الاقتضاء" بما يتوافق مع مهام التحالف الدولي ضد داعش.

هذا الشرط "عند الاقتضاء" بدا أشبه بعبارة فضفاضة تجعل الانسحاب أو البقاء مرهوناً بما تراه الإدارة الأميركية يخدم مصالحها. المسؤول نفسه أكد أن "واشنطن ملتزمة بإنهاء المهمة العسكرية للتحالف داخل العراق بحلول أيلول/سبتمبر 2025، على أن يستمر دعم عمليات هزيمة داعش في سوريا من قواعد داخل العراق حتى أيلول/سبتمبر 2026".

تكرار الحديث عن "خطر داعش" مع كل حديث عن الانسحاب أثار ريبة المعارضين للوجود الأميركي، فيما اعتبره المؤيدون دليلاً على ضرورة استمرار القوات، أما الوسطاء فقد استثمروا هذه النقطة لدعم خطابهم التوفيقي.

بالمقابل، فإن المعارضين لوجود القوات الأميركية يعتبرون أن الحديث عن الانسحاب ليس سوى "مناورة" أو "جرعة تخدير" تهدف لتهدئة من تصفهم واشنطن بـ"الميليشيات". هؤلاء يرون أن التصعيد بين إيران وإسرائيل، حتى وإن كان في معظمه إعلامياً، يفرض على الولايات المتحدة إبقاء قواتها في العراق لحماية إسرائيل. ومن ثم، فإن أي انسحاب الآن يعد ـ برأيهم ـ "فراغاً استراتيجياً" ستملؤه طهران.

ويستشهد هذا المعسكر بتصريحات قادته ومحللين مقربين منه، مؤكدين أن بقاء القوات الأميركية ضروري لإدارة ترامب حتى لو لم ترغب بخوض حرب مباشرة مع إيران، لأنه يشكل عامل ردع أمام "اندفاع" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نحو قرارات قد تضع أميركا وأوروبا في حرج. 

ويشيرون إلى الإدانات الدولية المتكررة للجيش الإسرائيلي في غزة، وصولاً إلى مبادرته لمهاجمة إيران خلال حرب الأيام الاثني عشر.

وبالتالي، يتمسك "صقور الرفض" بقناعة أن إعلان واشنطن نيتها الانسحاب ليس إلا "مماطلة" الغرض منها كسب الوقت.

وعلى الضفة الأخرى، يرى مؤيدو استمرار القوات الأميركية أن الأسباب التي يسوقها خصومهم لرفض البقاء هي ذاتها التي تجعل من الانسحاب خطوة محفوفة بالمخاطر. ويضيف هؤلاء سبباً آخر يتعلق بالانفتاح الأميركي على الحكومة السورية الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، الذي كان حتى وقت قريب "الجولاني" زعيم جبهة النصرة. لكن الرجل اليوم بات يحظى بقبول إقليمي ودولي، ما دفع بغداد إلى فتح قنوات مبكرة معه عبر رئيس جهاز المخابرات حميد الشطري.

زيارة الشطري المتكررة إلى دمشق، بدءاً من كانون الأول/ديسمبر 2024 وحتى لقائه الأخير بالشرع يوم الخميس، أثارت جدلاً واسعاً، خصوصاً أنها تناولت ملفات الحدود ومكافحة الإرهاب وأوضاع الجالية العراقية في سوريا.

وبين هذين المعسكرين، تحاول قوى أخرى أن تلعب دور "الحمائم"، عبر البحث عن صيغة لا تجعل العراق ساحة لحرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل، ولا رهينة لمغامرات نتنياهو. غير أن هذه القوى، رغم اختلاف خطابها، تتفق مع الطرفين على أن الحسم النهائي لا تحدده بغداد وحدها، بل القرارات الدولية للدول الكبرى التي تمسك بزمام قيادة النظام العالمي.

"سناب باك" والتصعيد المحتمل

غير أن النقاش حول الانسحاب الأميركي لا يتوقف عند حدود الداخل العراقي، بل يتقاطع مع التوترات الإقليمية والدولية، خصوصاً مع إعادة إحياء مصطلح "سناب باك" الذي يفتح الباب على سيناريوهات أكثر تصعيداً. 

هذه الآلية، التي أُدرجت في الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، تمنح واشنطن وبقية أطراف مجموعة "5+1" الحق في إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران بشكل تلقائي إذا ما أخلّت بالتزاماتها. وبمعنى آخر، فإنها تشبه "زر الطوارئ" الذي يمكن استخدامه لإعادة كل العقوبات الأممية السابقة من دون الحاجة إلى تصويت جديد في مجلس الأمن.

ومع أن هذا البند وُضع أصلاً لضمان التزام إيران بالاتفاق النووي، فإن إعادة طرحه اليوم في ظل تصاعد التوتر مع إسرائيل وأميركا يوحي بأن الملف العراقي قد يكون جزءاً من معادلة أوسع. فواشنطن، وفقاً لتقديرات بعض المراقبين، قد تستخدم ورقة الانسحاب أو البقاء في العراق كورقة ضغط متصلة بملف إيران النووي.

أما في طهران، فقد قوبل هذا التلويح الأميركي بلهجة تهديدية واضحة، عكستها تصريحات المسؤولين وتصعيد وسائل الإعلام المقربة من الحرس الثوري، التي وصفت الانسحاب الأميركي من العراق بأنه "خروج مشبوه"، وختمت تساؤلاً يحمل أكثر من دلالة: هل انتهت مهمة التحالف الدولي فعلاً، أم أنه سيعود بغطاء جديد لممارسة الدور ذاته؟

ويرى مراقبون في المحصلة، أن واشنطن تذهب نحو انسحاب "منسق" على الورق، عبر إعادة تعريف مهمة قواتها، من مقاتلة مباشرة إلى تقديم الدعم الاستشاري والتقني، وهو ما يعني عملياً استمرار الوجود العسكري الأميركي بشكل مختلف العنوان. هذه الصيغة سبق أن استخدمتها الولايات المتحدة في تجارب مشابهة، كأفغانستان عام 2014، حين تحولت القوات من مهام قتالية إلى "الدعم الحازم"، قبل أن تنسحب نهائياً بعد سبع سنوات وسط فوضى وانهيار كامل للحكومة الأفغانية.

ويخشى بعض الأطراف العراقية أن يتحول السيناريو ذاته إلى نسخة "معدّلة" في بغداد، حيث يظل الجنود الأميركيون في قواعد محددة، مع بقاء القدرة على التدخل متى ما تطلبت المصالح الأميركية ذلك.

وبينما تواصل واشنطن التأكيد على التزاماتها "الانتقالية"، وتتمسك طهران بخطاب التهديد، يبقى العراق عالقًا في منتصف الطريق؛ ساحة تتقاطع فوقها رسائل القوى الكبرى، وورقة تفاوضية في معادلة تتجاوز حدوده الجغرافية. وما بين انسحاب معلن ووجود فعلي، يبدو أن مستقبل القوات الأميركية في العراق سيبقى رهينة التوازنات الدولية أكثر مما هو نتاج قرار داخلي.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon