من سقوط الأسد إلى حكم الشرع.. كيف تبدو سوريا بعد عام من "الجمهورية الجديدة"؟
دمشق- المنطقة المحيطة بجامع الأمويين
شفق نيوز- دمشق/ القامشلي/ واشنطن
تقرير خاص
بعد عام واحد على سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة، تبدو سوريا وكأنها خرجت من حرب طويلة لتدخل في اختبار أطول وأعقد. حيث تتحرك البلاد بين ثلاث جبهات مترابطة، فك العزلة الخارجية واستعادة العلاقات مع العالم، إعادة تركيب العقد الاجتماعي في الداخل وطمأنة الأقليات، وفي القلب منها المسيحيون والعلويون وضبط الأطراف المشتعلة من الشمال الشرقي مع قوات سوريا الديمقراطية، وصولاً إلى الجنوب حيث التوغلات الإسرائيلية وحراك السويداء الدرزية التي تقترب من لغة الحكم الذاتي والانفصال.
فك العزلة الخارجية
بالمقابل، يبرز الدور الأميركي بوصفه عقدة سياسية واقتصادية في آن واحد، إذ ما تزال واشنطن تمسك بالمفتاح الأهم لمسار العقوبات والتمويل الدولي. فبينما تتحدث إدارة الشرع عن حوار "هادئ لكن متقدّم" مع الأميركيين، تصرّ الولايات المتحدة على ربط أي تخفيف للعقوبات بسلسلة شروط تشمل توسيع الهامش السياسي في الداخل، وحماية الأقليات، وضبط الحدود مع العراق والأردن، وتقليص نفوذ المجموعات المسلحة غير النظامية.
وعلى الرغم من الزيادة المحدودة في المساعدات الإنسانية، ودعم بعض مشاريع إعادة التأهيل العاجلة في الشمال الشرقي ومحيط دمشق، ما تزال الحكومة السورية تنتظر تغييراً جذرياً في بنية العقوبات، وعلى رأسها ما يعرف بقانون قيصر، في مشهد يضع واشنطن في موقع المانح المؤجَّل الذي يلوّح بورقة الرفع التدريجي للعقوبات بوصفها أداة ضغط، وحافزاً محتملاً في آن إذا مضت دمشق أبعد في الإصلاحات السياسية والأمنية.
في هذا الإطار، يكشف ألبرتو هرنانديز، مسؤول المناصرة الشعبية في المجلس السوري الأميركي، عن اقتراب ما يصفه بـ"اللحظة الحاسمة" في الكونغرس لإنهاء حقبة العقوبات، متوقعاً صدور النص الكامل لقانون إقرار الدفاع الوطني خلال الأسبوع الثاني من كانون الأول، على أن يُمرَّر في مجلسي النواب والشيوخ ويُوقَّع رئاسياً قبل نهاية العام.
ويشير في حديثه لوكالة شفق نيوز إلى تحرك الكونغرس اليوم انطلاقاً من قناعة متزايدة بأن سوريا يمكن أن تصبح "شريكاً موثوقاً" في ملفات مكافحة الإرهاب والمخدرات، ضمن شراكة جديدة يُتوقع أن ترافقها معايير دقيقة لقياس التقدم، مع رهان في واشنطن على أن الحكومة السورية قادرة على تجاوز هذه المعايير.
وعلى المستوى الرمزي، بلغ هذا التحوّل ذروته عندما استقبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب نظيره السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض، في زيارة رسمية وُصفت في العواصم الغربية بأنها إشارة واضحة إلى طيّ صفحة القطيعة مع دمشق وفتح باب شراكة مشروطة مع السلطة الجديدة.
ويقول الدكتور إليان مسعد، السياسي السوري ومنسق "الجبهة الديمقراطية العلمانية"، لوكالة شفق نيوز إن الحكومة حققت خلال هذا العام "نقلة مهمة بفك عزلة سوريا وبناء علاقات طبيعية مع أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي والدول العربية كافة"، ويرى أن هذا التحول يعكس "تقدماً في كفاءة المؤسسات" وفي طريقة إدارة الملف الخارجي.
هذه العودة النسبية إلى الخرائط الدبلوماسية ترافقها، بحسب مسعد، محاولة لبناء "مشروعية تشاركية في الداخل" قد تساهم في رفع العقوبات لاحقاً وتأسيس "حكم مدني وديمقراطي عادل". لكن على الأرض، ما زالت الأسئلة الكبرى من دون إجابات حاسمة، خصوصاً في ما يتعلق بمصير الأجهزة الأمنية، وحقوق الأقليات، وحدود سلطة المركز على الأطراف المضطربة.
العقد الاجتماعي المعلّق
أحد أكثر الملفات حساسية في سوريا ما بعد الأسد هو موقع الأقليات في الدولة الجديدة. يقول مسعد إن السنة الماضية كشفت "غياب الدور الفعلي للمجتمع المسيحي في الحيز العام والمؤسسات الأمنية والوزارات ومجلس الشعب"، معتبراً أن السلطة السابقة "همّشت المسيحيين وأنكرت الهوية السورية والسريانية" بوصفهما جزءاً مؤسساً من الهوية الوطنية إلى جانب الهوية العربية والإسلامية.
من هنا، يطالب بأن تمنح المرحلة الحالية "المجتمع المسيحي والمسيحيين دوراً في الجيش والمؤسسات الأمنية والسياسية والسلطة"، مع الإقرار بوجود "غياب شبه تام لهم في الوزارة ومجلس الشعب"، وبإمكانية قبول محاصصة مرحلية في الفترة الانتقالية لتصحيح هذا الخلل، من دون تحويل المحاصصة إلى نموذج دائم.
العلويون بدورهم يقفون اليوم عند مفترق طرق حرج. هذه الجماعة التي شكّلت لعقود العمود الفقري للأجهزة الأمنية والعسكرية تجد نفسها فجأة خارج السلطة التي حملت اسمها، بين خوف من انتقام محتمل ورغبة في ضمانات حقيقية بعدم الإقصاء الجماعي. أحداث متفرقة في الساحل، بين قرى موالية للنظام السابق ومجموعات محلية جديدة، عكست هذا التوتر المبكر الذي أشار إليه مسعد عندما تحدث عن "قصور في فهم السلطة للسلم المجتمعي في البداية قبل أن نلمس نضوجاً أكبر في إدراك حقوق المجتمعات كافة".
حتى الآن لم تقدّم الدولة رؤية واضحة لكيفية دمج الضباط والعناصر العلويين في هياكل الأمن الجديدة، ولا لطبيعة التمثيل السياسي للمناطق العلوية في أي مجلس تأسيسي أو برلمان مقبل، ما يترك الباب مفتوحاً أمام مخاوف حقيقية من انتقال البلاد من استبداد لون واحد إلى تهميش لون آخر بشكل معكوس.
إلى الشمال الشرقي، تتخذ الأزمة شكلاً مختلفاً.يشير الأكاديمي والمحلل السياسي الكوردي الدكتور فريد سعدون إلى وجود معضلة سياسية أساسية تعرقل أي تسوية خلال العام الحالي، تتمثل في التوافق والاندماج بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على نحو ثلاثين بالمئة من الأراضي السورية الغنية بالنفط والغاز وتشكل السلة الغذائية للبلاد.
الخلاف الجوهري بين دمشق وقسد يتمحور حول شكل نظام الحكم. قسد تطالب بنظام لا مركزي حقيقي يوزع الصلاحيات بين الأقاليم والمركز، بينما تصر الحكومة على مركزية واسعة، ما يعقّد تنفيذ "اتفاق العاشر من آذار" الموقّع بين أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي، والذي كان يفترض أن يشكل خارطة طريق لتوحيد القوات والسلطات ضمن صيغة واحدة.
يرى سعدون أن تطبيق الاتفاق يحتاج إلى مراحل طويلة من الحوار حول شكل الدولة ونظام الحكم، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وصياغة دستور جديد تمر كل بنوده عبر البرلمان لنيل الشرعية، ما يجعل تحقيق اختراق حقيقي خلال ما تبقى من العام أمراً مستبعداً.
ومع أن الحكومة تنظر إلى الفدرالية بوصفها مدخلاً للتقسيم وترفضها، يقترح سعدون صيغة وسط تقوم على لا مركزية حقيقية لا تلامس الفدرالية السياسية الكاملة، لكنها تتجاوز في الوقت نفسه اللامركزية الخدمية الشكلية، عبر توزيع فعلي للصلاحيات بين المحافظات والمركز، مع احتفاظ الحكومة بالوزارات السيادية مثل الدفاع والخارجية والمالية، ومنح المحافظات حق اختيار المجالس المحلية ومحافظيها بعيداً عن التعيين من دمشق.
دروز السويداء تحت سماء الجنوب الإسرائيلي
من مناطق الساحل إلى الجنوب، تبدو محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية مرآة مكبّرة للتحديات التي تواجهها دمشق في الأطراف.بدأت احتجاجات السويداء في آب 2023 ضد رفع أسعار الوقود في ظل حكم الأسد، قبل أن تتحول إلى حركة واسعة تطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وإطلاق سراح المعتقلين، ثم إسقاط النظام نفسه، لتصبح واحدة من الجبهات التي سرّعت سقوطه في نهاية 2024.
واليوم، بعد عام على التغيير، لم تهدأ المدينة. الرصد الميداني من هناك يتحدث عن استمرار حركة احتجاجية منظمة، بعضها غير عنيف، وبعضها تطور إلى صدامات محدودة مع القوى الأمنية الجديدة، مع بروز خطاب جديد في الأشهر الأخيرة يدعو إلى "الاستقلال" أو "الوضع الخاص" للسويداء، مدعوماً من شخصيات دينية واجتماعية بارزة. منذ منتصف آب 2025 شهدت المحافظة تظاهرات ترفع شعارات تطالب بالانفصال عن دمشق وبإقامة نوع من الحكم الذاتي، في حركة وصفتها تقارير محلية بأنها "مرحلة جديدة" من الحراك الدرزي بعد سقوط النظام السابق.
دراسات حديثة تشير إلى أن الدروز في السويداء يدفعون في اتجاهات متعددة.جزء منهم يطالب بصيغة لا مركزية واسعة داخل سوريا موحدة ويرفض مشروع دستور الشرع لعدم شموله ضمانات كافية، فيما يذهب جزء آخر أبعد نحو طرح صيغ حكم ذاتي أو إدارة محلية شبه مستقلة، مستندين إلى سنوات من الإدارة الفعلية الذاتية خلال الحرب.
في الوقت نفسه، تتحرك إسرائيل على الجبهة الجنوبية في مسار مواز. منذ سقوط نظام الأسد، استغلت تل أبيب فراغ السلطة على حدود الجولان للتوغل داخل المنطقة المنزوعة السلاح التي حددها اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، وسيطرت عملياً على شريط واسع من الأراضي السورية تصفه بأنه "منطقة عازلة مؤقتة" لضمان أمنها. تقارير أممية وأخرى إعلامية تتحدث عن مئات الخروقات لخط وقف إطلاق النار، مع عشرات الغارات الجوية والتوغلات خلال العام الماضي، استهدفت مواقع يُشتبه في أنها مخازن سلاح أو نقاط لقوات حليفة لإيران، وأحياناً تجمعات لقوات سورية رسمية.
في كلمته أمام منتدى دولي في الدوحة قبل أيام، اتهم أحمد الشرع إسرائيل بأنها "تقاتل أشباحاً" وتنقل أزماتها إلى الأراضي السورية بعد حرب غزة، منتقداً ما وصفه بتوظيف شعار الأمن لتبرير "احتلال فعلي" لشريط من الأراضي السورية كان جزءاً من منطقة مراقبة الأمم المتحدة.
في المقابل، يتحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاباته عن إمكانية التوصل إلى ترتيبات مع سوريا بشرط الإبقاء على منطقة عازلة عميقة تمتد عملياً من أطراف دمشق إلى جبل الشيخ، مع تمسك تل أبيب بالسيطرة على جزء كبير من المنطقة التي كانت خاضعة سابقاً لمراقبة قوة فضّ الاشتباك الدولية.
تتقاطع هذه التطورات مع الملف الدرزي في السويداء بطريقة معقدة. إسرائيل تلوّح في خطابها العلني بضرورة "حماية الأقليات" وفي مقدمتها الدروز في أي ترتيبات مستقبلية للجبهة الجنوبية، فيما تحاول دمشق إظهار نفسها كحامية لوحدة الأراضي السورية في مواجهة مخاطر التقسيم.
داخل السويداء، تنظر شرائح واسعة من المجتمع الدرزي بعين الريبة إلى أي حديث عن "حماية خارجية"، وتفضل أن يأتي أي وضع خاص للمحافظة ضمن إطار وطني شامل، عبر لا مركزية حقيقية تمنحهم حق إدارة شؤونهم المحلية وقضائهم وأمنهم، من دون أن تتحول الجغرافيا الدرزية إلى ممر نفوذ لأي قوة خارجية.
في هذا المشهد، تبدو السويداء محاصرة بين بنادق الجيش السوري، وطائرات إسرائيل، والهاجس المتزايد من أن تتحول مطالب الحكم الذاتي إلى ذريعة لتفكيك البلاد أو تحويل الجنوب إلى ساحة مقايضات إقليمية.
إلى جانب عقدة الأقليات وحدود الأطراف، تواجه "الجمهورية الجديدة" إرثاً ثقيلاً من الجماعات المتشددة والمقاتلين القادمين من الخارج، ممن قاتل بعضهم في مراحل حاسمة إلى جانب القوات الموالية لأحمد الشرع في مواجهة النظام السابق وفصائل أخرى، قبل أن يتحول جزء منهم إلى شبكات منفلتة تبحث عن موطئ قدم في اقتصاد الظل والتهريب والجباية.
ورغم حديث الحكومة عن "تفكيك البنى غير النظامية" ودمج من تنطبق عليهم الشروط في الجيش أو القوى الأمنية، تشير الوقائع الميدانية إلى أن قسماً من هذه التشكيلات ما يزال يحتفظ بالسلاح والنفوذ في جيوب ريفية وعلى أطراف المدن. بالنسبة لكثير من المراقبين، لن تكتمل صورة الدولة الجديدة ولا احتكارها "العنف المشروع" ما لم يُحسم مصير هذه المجموعات عبر مسارات واضحة لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، تمنع إعادة تدويرها كأذرع موازية للسلطة أو كأدوات صراع بين الأجنحة القديمة والجديدة داخل النظام.
اقتصاد على حافة الإرهاق
بعيداً عن الخرائط والسياسة، يعيش السوريون صراعهم اليومي مع اقتصاد منهك. بعد أربعة عشر عاماً من حرب دمّرت البنية التحتية وأصابت الزراعة والصناعة إصابات بالغة. تقف الليرة وهي تحاول أن تستعيد عافيتها، التضخم يتفاقم، البطالة عند مستويات مرتفعة، ومئات آلاف المهجرين داخلياً وخارجياً يعيشون على المساعدات أو التحويلات.أي مشروع جدي لإنعاش الاقتصاد يحتاج إعادة تأهيل واسعة للبنية التحتية، وتوفير الطاقة، وعودة التعاملات المصرفية مع الخارج، وهي عناصر ما تزال ناقصة، رغم توقعات بعض الخبراء بإمكانية رفع عقوبات قيصر جزئياً قبل نهاية العام، بما يسمح بدخول استثمارات محدودة إلى السوق السورية.
حتى اليوم، تعتمد الدولة على دعم خليجي وغير خليجي لتغطية جزء من الرواتب وبعض مشاريع إعادة الإعمار، فيما تبقى العدالة الانتقالية، والاستقرار الأمني، وحل ملفات الأطراف مثل السويداء والمناطق الكوردية، شرطاً مسبقاً لأي دخول واسع لرؤوس الأموال.
وبعد عام على سقوط نظام الأسد، لا تشبه سوريا نفسها في 2024، لكنها أيضاً لم تصبح بعد سوريا التي حلم بها المحتجون على امتداد السنوات.في الساحل، علويون يعيدون تعريف علاقتهم بالدولة من موقع الشريك لا الحاكم، في السويداء، دروز يلوّحون بورقة الحكم الذاتي والانفصال من دون أن يقطعوا تماماً مع فكرة الدولة الواحدة، في الشمال الشرقي، كورد وعرب في إطار قوات سوريا الديمقراطية ينتظرون جواباً نهائياً من دمشق حول معنى اللامركزية، وفي الجنوب، إسرائيل ترسم حدوداً جديدة لأمنها داخل الأرض السورية.
في هذا المشهد، لا تبدو السنة الثانية مجرد امتداد لسنة أولى انتقالية، بل امتحاناً لفكرة الدولة نفسها. إذا تمكنت السلطة من تحويل الانفتاح الخارجي إلى إصلاحات ملموسة في الداخل، ومن تحويل لغة الشراكة مع الأقليات والأطراف إلى مؤسسات وقوانين لا إلى خطابات فقط، فقد يكون هذا العام بداية خروج تدريجي من نفق الحرب الطويلة. أما إذا استمرت الحسابات القديمة في إدارة المرحلة الجديدة، فقد يجد السوريون أنفسهم بعد سنوات وهم يستعيدون ذكرى سقوط نظام الأسد باعتبارها لحظة ضائعة أخرى، لم تُستثمر كما ينبغي في بناء بلد مختلف عن كل ما عرفوه من قبل.