على دروب الأربعين.. نساء يكسرن القوالب التقليدية بخدمة الزائرات (صور)
شفق نيوز- بغداد/ كربلاء/ النجف
مع أولى خيوط الصباح، تبدأ حركة المواكب على الطريق الرابط صوب كربلاء في التنامي. رايات سوداء وخضراء تتمايل فوق الخيم، رائحة الخبز الحار تمتزج مع بخار الشاي المغلي، وأصوات التلبية والأدعية تتردد بين جموع الزوار الذين يمضون بخطى ثابتة نحو ضريح الإمام الحسين. في هذا المشهد الروحاني، تظهر المواكب النسوية كعلامة فارقة، تضيف بعداً إنسانياً وخدمياً لا يقل أهمية عن المواكب التي يديرها الرجال.
عند نقطة من الطريق، تقف الحاجة فاطمة عبد الزهرة، في منتصف الخمسينات من عمرها، وسط حركة لا تهدأ. أمامها طاولة خشبية مغطاة بأطباق السندويشات وأكواب الماء والعصائر والفاكهة، فيما تقف بناتها الثلاث بجانبها، كل واحدة تتولى مهمة محددة: توزيع، تعبئة، أو استقبال الزائرات وإرشادهن إلى المفرزة الطبية المجاورة.

هذه المفرزة، التي تديرها ابنتها الكبرى – خريجة قسم التحليلات المرضية – خصصت بالكامل للنساء. هنا تُفحص ضغوط الدم ونسب السكر، وتعالج حالات الإعياء، وتُصرف أدوية أولية وفرتها فاطمة من مدخراتها السنوية. تقول لمراسلة وكالة شفق نيوز بابتسامة ويدها لا تتوقف عن العمل: "عدد المواكب النسائية قليل مقارنة بعدد الزائرات، لذلك قررت أن يكون لنا موكب مخصص لهن فقط… من لقمة الطعام إلى الفراش في بيتي لمن تحتاج الراحة قبل متابعة السير".
قريباً من هذا المشهد، تجلس أم كاظم، وهي امرأة مسنّة بعباءة سوداء باهتة، على كرسي بلاستيكي وسط الطريق. لا تملك ما تقدمه سوى الدعاء، لكنها تراه أعظم أشكال الخدمة. "حين لا أملك شيئاً مادياً، أقدم الدعاء"، تقول وهي تعيد ترتيب حجاب إحدى الزائرات بعناية، ثم تطبع قبلة على جبينها وتدعو لها بالقبول والوصول الآمن.
وعلى بعد بضع خيم، تنحني المهندسة الشابة ريم قيس أمام امرأة خمسينية، تغسل قدميها بماء فاتر، تدلكهما بمرهم طبي، وتغطيهما بجوارب قطنية جديدة. ريم التي حلمت منذ طفولتها بموكب خاص بها، بدأت تدخر من راتبها السنوي، تجمع التبرعات من صديقاتها، حتى صار لديها موكب صغير يقدم وجبات طعام، أماكن مبيت، وخدمات طبية بسيطة تديرها صديقاتها الممرضات. "هذا العمل ليس مجهوداً جسدياً فقط، بل رفعة روحية"، تقول ريم وهي تبتسم.
في كربلاء، وعلى طريق جانبي ضيق مفضي إلى المرقد، تدير الحاجة أم هدى مشهداً لا يقل حيوية. لم تُرزق بولد، لكنها جعلت من بناتها شركاء في خدمة الأربعين. تقول وهي تراقب قدراً كبيراً من الحساء يتصاعد منه البخار: "خدمة الزائرين ليست حكراً على الرجال. عشقي لآل البيت ودوري كأم جعلني أخصص كل عام أياماً لهذه الخدمة مع بناتي".
بناتها، بين موظفات حكوميات وربات بيوت، يدخرن جزءاً من رواتبهن لتمويل الموكب. تعد الوجبات وفق جدول منظم: فطور، غداء، عشاء، وتقتصر الاستضافة داخل المنزل الصغير المستأجر على النساء فقط.
باسمة، ابنة أم هدى ومعلمة مدرسة، ترى في الأمر امتداداً لدور المرأة التاريخي في كربلاء: "الإمام الحسين اصطحب عائلته رغم علمه بمصيره، والمرأة كان لها دور أساسي في نقل الرسالة. نحن نكمل هذه المسيرة".
أما شقيقتها بشرى، المحامية، فترى أن استمرارهن في هذه الخدمة هو وفاء لذكرى والدهن الراحل الذي رباهن على حب الشعائر. وبينما كانت تزرع إبرة مسكن لزائرة أرهقها الحر، قالت: "كل عمل نقدمه نهديه لروحه، حباً بالحسين المظلوم".
على امتداد الطريق، تتكرر هذه المشاهد بمئات الصور: يد تغسل قدم متعبة، أخرى تعيد ترتيب حجاب، خيمة تقدم الشاي مع ابتسامة، وامرأة مسنة ترفع يديها بالدعاء. ومع تدفق أكثر من 15 مليون زائر من العراق وخارجه، تظل هذه المواكب النسوية شهادة على أن الخدمة الحسينية لا تُقاس بحجم الخيمة أو كمية الطعام، بل بنقاء النية، وصدق العطاء، واللمسة الإنسانية التي ترافق الزائر حتى يصل إلى كربلاء.