تاريخ التأمل في الأديان والفلسفات المختلفة
في 6 ديسمبر/ كانون أول من العام الماضي، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 21 ديسمبر/كانون الأول من كل عام يوماً عالمياً للتأمل، بهدف زيادة الوعي بفوائده، والتأكيد على حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنيّة والعقليّة.
ويُعرّف موقع الأمم المتحدة التأمل على أنه ممارسة ذهنية يستخدم فيها الفرد أساليب مثل اليقظة الذهنية أو التركيز العميق لتدريب العقل، والوصول إلى حالة من الصفاء الذهني والهدوء العاطفي والاسترخاء الجسدي. وعلى الرغم من جذوره الممتدة في التقاليد الدينية واليوغا عبر ثقافات مختلفة منذ آلاف السنين، فإن التأمل اليوم يُمارَس في سياقات علمانية وصحية حول العالم.
ويحتل التأمل مكانة رمزية خاصة داخل الأمم المتحدة، تتجسد في غرفة التأمل بمقر المنظمة في نيويورك، التي افتُتحت عام 1952 بإشراف الأمين العام الراحل داغ همرشولد، وترمز هذه الغرفة إلى الدور الجوهري الذي يلعبه السكون الداخلي في خدمة السلام العالمي.
ولكن ما هي قصة البشرية مع التأمل؟
تاريخ
تقول دائرة المعارف البريطانية إن التأمل مُورس عبر التاريخ من قبل أتباع جميع ديانات العالم، ففي الكاثوليكية، على سبيل المثال، يقوم التأمل على تفكير نشط وطوعي ومنهجي في موضوع كتابي أو لاهوتي، أما الممارسات الدينية الشرقية التي تنطوي على التفكير المنضبط، فقد وُصفت في الغرب منذ القرن التاسع عشر بأنها من أشكال التأمل.
وتنص المدرسة الفلسفية الهندوسية لليوغا، على سبيل المثال، على عملية شديدة التفصيل لتطهير الجسد والعقل والروح، وتُعد "ديانا"، وهي أحد جوانب ممارسة اليوغا، (بالسنسكريتية تعني التأمل المركّز)، محوراً لمدرسة بوذية عُرفت في الصين باسم "تشان"، ولاحقاً في اليابان باسم "زن".
وفي أواخر ستينيات القرن العشرين، أثارت فرقة الروك البريطانية "البيتلز" موجة اهتمام في الغرب بالتأمل وذلك من خلال انضمام أعضائها إلى مدرسة "التأمل التجاوزي"، وهي أول طرق التأمل القادمة من جنوب وشرق آسيا التي حققت نجاحاً تجارياً واسعاً في الغرب.
وفي العديد من الديانات، هناك سعي إلى التطهير الروحي من خلال التكرار اللفظي، أو الذهني لمقطع صوتي، أو كلمة، أو نص محدد يُعتقد بفاعليته، مثل المانترا في الهندوسية والبوذية، والذِكر في الإسلام، وصلاة يسوع في المسيحية الشرقية، كما يُعد تركيز الانتباه على صورة بصرية، كزهرة أو جبل بعيد، طريقة شائعة في الممارسات التأملية، وقد جرى تقنينها ضمن عدد من التقاليد الدينية.
فعلى سبيل المثال، ينظر البوذيون التبتيون إلى الماندالا (بالسنسكريتية تعني الدائرة) بوصفها مخططاً يُجسّد تجمع القوى الكونية، ويمكن للبشر الوصول إليه عبر التأمل، وإلى جانب ذلك، تؤدي أدوات مثل المسبحة وعجلة الصلاة، دوراً طقوسياً بالغ التنظيم في العديد من تقاليد التأمل، كما تضطلع الموسيقى بدور مماثل في هذه الممارسات.
تركّز معظم ممارسات التأمل على تجميع الانتباه بهدف إحداث تجارب صوفية، بينما تقوم ممارسات أخرى على الوعي الذهني بكل محتويات الفكر، وتوظف هذا الوعي لفصل الممارس عن جميع الأفكار أو عن بعض منها، مثل إدراك مفهوم الأنا في البوذية، أو مراقبة الميل الطبيعي للخطأ والشر في المسيحية، الذي يُعرف أحياناً بـ"جاذبية الخطيئة". وقد يُستخدم التأمل أيضاً كوسيلة تحضير فعّالة للأنشطة التي تتطلب جهداً بدنياً أو ذهنياً كبيراً، كما في حالة المحارب قبل المعركة أو الموسيقي قبل الأداء.
غالباً ما تختلف المعتقدات والتصورات التي تقدمها الممارسات المختلفة للتأمل، وقد تتعارض أحياناً فيما بينها. فالهندوسية، على سبيل المثال، تعتبر أن الذات جزء من الطبيعة الإلهية المطلقة. في المقابل، تؤكد بعض التقاليد الصوفية الإسلامية أن الله وحده هو الموجود. كما ترى بعض المدارس المسيحية واليهودية أن الله حاضر بطريقة مباشرة في النفس. أما البوذية الماهايانية، فترى أن جميع الأشياء خالية من الجوهر الثابت، وهو ما يعرف بمفهوم "الفراغ".
وفي الغرب، ركّزت الأبحاث العلمية حول التأمل، منذ سبعينيات القرن العشرين، وعلى آثاره النفسية والجسدية وفوائده، ولا سيما التأمل التجاوزي، وقد أثبتت الطرق التأملية التي يستخدمها ممارسون متمرّسون فعاليتها في التحكم في معدلات النبض والتنفس، وفي التخفيف من أعراض الصداع النصفي وارتفاع ضغط الدم والناعور (الهيموفيليا)، إلى جانب حالات صحية أخرى.
لقد أدّى التململ من القيم المادية إلى إحياء الاهتمام بالفلسفات والممارسات الهندية والصينية واليابانية، ولا سيما بين فئة الشباب، في العديد من الدول الغربية خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وأصبح تعليم وممارسة العديد من طرق التأمل، التي يستند معظمها إلى التقاليد الدينية الآسيوية، ظاهرة واسعة الانتشار.
وفي الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة للممارسات التأملية، وفيما يلي قائمة بأبرز هذه المدارس.
التأمل الهندوسي
يعد التأمل عنصراً جوهرياً في التقاليد الهندوسية، وتعود جذوره إلى أقدم النصوص الدينية في الهند مثل الفيدا والأوبانيشاد. وترتبط ممارسة التأمل في هذه التقاليد بالسعي إلى معرفة الذات الحقيقية التي ترى الفلسفات الهندوسية أنها متحدة مع المطلق.
وتتعدد أشكال التأمل الهندوسي بحسب المدارس والمذاهب الفلسفية، فمنها التأمل القائم على ترديد المانترا، ومنها التأمل في الإله او في صورة رمزية، ومنها التأمل العقلي في طبيعة الذات والوجود، ويعكس هذا التنوع اتساع التقليد الهندوسي وعدم خضوعه لنموذج واحد موحد.
وفي اليوغا الكلاسيكية، يحتل التأمل مرحلة متقدمة في المسار الروحي، تسبقها ممارسات تهدف الى ضبط السلوك والجسد والتنفس، ويعد التأمل في هذا السياق وسيلة لتحرير العقل من التعلق والجهل، وصولاً إلى حالة من الإدراك الصافي.
ولا يمكن اختزال التأمل الهندوسي في ممارسة واحدة، بل يمثل تقليداً واسعاً تطور عبر قرون طويلة، وقد أثر هذا التقليد بعمق في أشكال التأمل اللاحقة، سواء في البوذية او في الممارسات الروحية الحديثة.
التأمل البوذي
يحتل التأمل مكانة مركزية في البوذية منذ نشأتها في شمال الهند في القرن الخامس قبل الميلاد، وتعرض النصوص البوذية المبكرة التأمل بوصفه وسيلة أساسية لفهم طبيعة المعاناة والتحرر منها، وليس مجرد تمرين للسكينة او الاسترخاء، ويرتبط هذا الدور المحوري بسيرة بوذا نفسه، الذي يقول البوذيون إنه توصل إلى الاستنارة بعد ممارسة تأملية عميقة قادته إلى إدراك أسباب المعاناة وطريق الخلاص منها.
وتفرق البوذية تقليدياً بين نوعين رئيسيين من التأمل هما تهدئة الذهن وتنمية البصيرة، ويهدف الأول إلى تثبيت الانتباه وتخفيف الاضطراب العقلي من خلال التركيز على موضوع واحد مثل التنفس، أما الثاني فيسعى الى تنمية الفهم العميق لطبيعة الوجود، ولا سيما عدم الثبات والمعاناة وغياب الذات الدائمة، وهي مفاهيم أساسية في الفلسفة البوذية.
وتصف نصوص بالي البوذية مراحل متقدمة من التركيز تعرف باسم جانا، وهي حالات ذهنية يتراجع فيها الانتباه عن العالم الحسي الخارجي لصالح وعي داخلي مستقر، وتعد هذه الحالات وسائل تدريبية تساعد على تهذيب الذهن، لكنها لا تمثل الهدف النهائي للممارسة الروحية، وتؤكد البوذية أن التعلق بهذه الحالات قد يشكل عائقاً إذا لم يقترن بتنمية الحكمة.
وتشدد البوذية على أن التحرر النهائي لا يتحقق بالتركيز العقلي وحده، بل عبر الحكمة الناتجة عن التأمل في الواقع كما هو. ولهذا ترى أن حالات الصفاء العميق مؤقتة بطبيعتها، وأن بلوغ النيرفانا (حالة التحرر من المعاناة "الداخا" ودورة الميلاد والموت المستمرة "سامسارا") يتطلب إدراكاً مباشراً للحقيقة، يقوم على الجمع بين السلوك الأخلاقي والانضباط الذهني والفهم العميق للوجود.
التأمل الطاوي
ينتمي التأمل الطاوي إلى الفلسفة الصينية القديمة، ويركز على الانسجام مع قوانين الطبيعة، ويهدف إلى تحقيق التوازن بين الجسد والعقل والطاقة الداخلية.
وتعتمد ممارسة التأمل الطاوي على تقنيات التنفس العميق وتنظيم الطاقة الحيوية، وأحياناً على التصور الذهني للطاقة أو العناصر الطبيعية، ويسعى الممارس من خلالها إلى تعزيز الصحة وطول العمر.
وترتبط هذه الممارسات بالطب الصيني التقليدي حيث تتكامل فيه عناصر الحركة البطيئة مع التركيز الذهني والتنفس المنتظم، بما يسمح بإعادة الانسجام إلى وظائف الجسد المختلفة.
وفي جوهره، لا يسعى التأمل الطاوي إلى تراكم المعرفة النظرية، بل يركز على تجربة العيش المتناغم مع الكون، من خلال تحقيق توازن داخلي ينعكس على علاقة الإنسان بالعالم من حوله، ويعزز إحساسه بالسلام والانسجام.
تأمل التشان والزن
مدرسة التشان، التي تعتبر فرعاً من البوذية الصينية، ترتكز على الدمج بين التأمل العقلي والوعي اللحظي للحياة اليومية، وتركز على الخبرة المباشرة بدلاً من الدراسة النظرية للنصوص.
وتعتمد ممارسات التشان على الجلوس الصامت، ومراقبة الأفكار، وملاحظة الانفعالات من دون تدخل أو محاولة التحكم بها، ويهدف ذلك إلى إدراك طبيعة العقل وتجاوز التعلق بالذات.
وتشمل ممارسات هذه المدرسة أحياناً استخدام مفارقات وأسئلة عميقة تهدف إلى كسر التفكير المنطقي المعتاد، وتحفيز الإدراك المباشر للحقيقة كما هي.
وتؤكد مدرسة التشان أن الاستنارة ليست حدثاً استثنائياً منفصلاً عن الحياة اليومية، بل حالة يمكن أن تتجلى في أبسط الأفعال مثل العمل أو المشي أو الصمت، ولهذا تشدد على الانضباط الذاتي والبساطة والابتعاد عن التعقيد الفكري، معتبرة أن الإفراط في الشرح والتنظير قد يحجب الحقيقة بدلاً من أن يكشفها.
وفي هذا الإطار، يصبح المعلم ودوره في نقل الخبرة الحية عنصراً محورياً، حيث تنتقل المعرفة عبر الممارسة المباشرة والتفاعل الشخصي، لا عبر النصوص وحدها.
أما مدرسة الزن فهي الامتداد الياباني للتشان الصينية، والمدرستان متقاربتان جداً من حيث الجوهر، ولكن الزن متأثرة بالثقافة اليابانية والفنون المرتبطة بها مثل تنسيق الحدائق، وفن الشاي، والخط، وفنون القتال.
التأمل في اليهودية
كافاناه (kavvanah)، وبالعبرية تعني النية أو التفاني، في اليهودية هي الحالة الذهنية أو التوجّه الداخلي الذي ينبغي أن يتحلى به الإنسان عند أداء الواجبات الدينية، ولا سيما الصلاة. وقد أوصى الفيلسوف اليهودي في القرن الثاني عشر موسى بن ميمون (ميمونيدس) بأنه من أجل بلوغ الكافاناه أثناء الصلاة، ينبغي للمرء أن يضع نفسه ذهنياً في حضرة الله، وأن يتجرّد تماماً من جميع الشواغل الدنيوية، ويُنظر لدى بعض الاتجاهات إلى أداء الواجبات الدينية من دون كافاناه على أنه يعادل عدم الوفاء بالالتزامات الروحية.
ففي القبّالاه (التصوف اليهودي الباطني)، تشير الكافاناه إلى التركيز على المعاني السرّية للكلمات والحروف في الصلوات المختلفة، وكانت الصلاة التي تُتلى من دون كافاناه حقيقية تُشبَّه بجسد بلا روح.
وقد شدّد المتصوف اليهودي في القرن السادس عشر إسحاق بن سليمان لوريا بشكل كبير على أهمية الكافاناه في تأملاته القبّالية، إذ كان يعتقد أن الكافاناه الصحيحة قادرة على التأثير في العوالم العليا وإحداث ترميم كوني يُعرف بـتيقّون.
وفي الحسيدية، وهي حركة اجتماعية ودينية تركز على التقوى، تؤدي الكافاناه دوراً عاطفياً أكثر منه عقلياً في الحياة الدينية، وبناءً على ذلك، يزداد الاهتمام بالسلامة الروحية للفرد الحسيدي.
التأمل المسيحي
ظهر التأمل المسيحي في تقاليد الرهبنة المبكرة في أوروبا، حيث ارتبط بالصلاة الداخلية والتأمل في النصوص المقدّسة، ويهدف إلى تعميق العلاقة مع الرب وتعزيز الوعي الروحي للفرد.
وتشمل ممارسات التأمل المسيحي الصلاة التأملية، والصمت الداخلي، والتفكر في كلمات الإنجيل أو في الصفات الإلهية، ويستخدم هذا الأسلوب لتوجيه الفكر نحو الرب وتصفية القلب من الانشغالات الدنيوية.
في أواخر العصور الوسطى، برزت تجارب تأمل مسيحية لدى شخصيات مثل القديس يوحنا الصليب والقديسة تيريزا الأفيلا، حيث ركزت كتاباتهما على مفهوم الحب الإلهي والسعي إلى اختبار مباشر للاتحاد الروحي مع الرب.
ويختلف التأمل المسيحي عن التأمل الشرقي في تركيزه على العلاقة الشخصية مع الإله، ويؤكد على الممارسة الروحية اليومية كجزء من حياة المؤمن وليس مجرّد تمرين ذهني.
التأمل الصوفي في الإسلام
التأمل الصوفي في الإسلام يقوم على ملء القلب بذكر الله، وهدفه الجوهري هو التحوّل الروحي، أي الانتقال من حياة تتمحور حول الأنا إلى وعي يتمحور حول الله.
ويشكل التأمل الصوفي جزءاً أساسياً من التصوف الإسلامي، ويهدف إلى تحقيق التقرب من الله وتنقية القلب من الانشغالات الدنيوية، ويركز على تطوير وعي داخلي مستمر وحضور روحي دائم في الحياة اليومية، وليس مجرد ممارسة لحظية.
ويعتمد التأمل الصوفي على الذكر القلبي، أي تكرار أسماء الله أو العبارات الدينية مع حضور داخلي للمعنى، بحيث يصبح الفكر والقلب متصلين بالواقع الروحي، ويساعد هذا الأسلوب على تهذيب النفس ومكافحة المشاعر السلبية مثل الغرور أو الحسد أو القلق.
وترتبط ممارسة التأمل الصوفي بالسلوك الأخلاقي، فالزهد، والصبر، والتفاني في العمل الصالح، والتواضع، كلها عناصر ضرورية لنجاح التجربة الروحية، ويُنظر إلى التأمل ليس فقط كوسيلة للهدوء، بل كطريق لتنمية الفضائل الإنسانية الروحية.
ويركز التأمل الصوفي على التجربة الشخصية المباشرة للاتحاد مع الله، ويختلف عن التأمل الشرقي في اعتماده على علاقة روحية شخصية ومباشرة مع الإله، وليس على مجرد طرق ذهنية، مما يجعله ممارسة متكاملة تشمل الفكر والسلوك والحياة اليومية.
التأمل الحركي (تاي تشي وكيغونغ)
أصله من الصين القديمة، لكن شكله الحديث كممارسة تأملية جسدية انتشر بشكل أكبر منذ القرن العاشر الميلادي.
والتأمل الحركي يشمل ممارسات مثل التاي تشي والكيغونغ، حيث يتم الجمع بين الحركة الواعية والتنفس العميق والانتباه الذهني، ويهدف إلى تعزيز التوازن الجسدي والذهني في الوقت نفسه.
ويتم تنفيذ التمارين ببطء وانسجام، مع تركيز الممارس على كل حركة وكل شعور جسدي، بحيث تتحول الحركة إلى وسيلة للتأمل العميق والوعي الداخلي.
ويستخدم التأمل الحركي لأغراض صحية وروحية، ويساعد على تنشيط الطاقة الحيوية وتقليل التوتر وتحسين المرونة البدنية.
وهذا النوع من التأمل يعكس فهماً شاملاً للإنسان كوحدة متكاملة، حيث يدمج بين العقل والجسد والطاقة، ويختلف عن التأمل الساكن التقليدي بكونه ديناميكيا وعملياً.
التأمل التجاوزي (Transcendental Meditation)
التأمل التجاوزي هو أسلوب من أساليب التأمل يقوم فيه الممارسون بترديد كلمة أو عبارة خاصة باللغة السنسكريتية (المانترا) ذهنياً، بهدف الوصول إلى حالة من السكينة الداخلية والهدوء الجسدي.
وقد علّم هذا الأسلوب الراهب الهندوسي سوامي برهماناندا ساراسواتي، المعروف أيضاً باسم غوروديف، الذي توفي عام 1953، ثم جرى الترويج لهذه الطريقة على المستوى الدولي منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين على يد أحد تلاميذه، وهو المهاريشي ماهيش يوغي (1917–2008)، من خلال حركة التجديد الروحي التي أسّسها.
وصاغ المهاريشي ماهيش يوغي مصطلح "التأمل التجاوزي" لتمييز هذه الطريقة عن غيرها من ممارسات التأمل، وللتأكيد على استقلالها عن الهندوسية، بل وعن أي دين آخر، وفي الغرب، أصبح التأمل التجاوزي يُعلَّم ويُمارَس بوصفه مساراً علمانياً يهدف إلى تحقيق الرفاهية العقلية والعاطفية والجسدية.
وازدادت شعبية التأمل التجاوزي في الغرب بشكل ملحوظ في أواخر ستينيات القرن العشرين، عندما انضمت فرقة الروك البريطانية "البيتلز" وعدد من المشاهير الآخرين إلى أتباع مهاريشي، وبدأوا ممارسة التأمل.
ومن خلال تكرار المانترا، يسعى ممارس التأمل التجاوزي إلى تهدئة نشاط الفكر واختبار حالة عميقة من الاسترخاء، ويُقال إنها تؤدي إلى تعزيز الرضا الداخلي والحيوية والإبداع، ويستند الإطار النظري الذي يقوم عليه التأمل التجاوزي، والمعروف باسم "علم الذكاء الخلّاق"، إلى فلسفة الفيدانتا، غير أن الممارسين لا يُشترط عليهم اعتناق هذه الفلسفة من أجل استخدام الطريقة بنجاح.
تأمل اليقظة الذهنية الحديثة (Mindfulness)
تأمل اليقظة الذهنية أو Mindfulness هو شكل حديث مستمد من التأمل البوذي، وقد تم تطويره في الغرب لأغراض علاجية ونفسية على يد جون كابات زين في أواخر القرن العشرين، ويهدف هذا الأسلوب إلى تعزيز الانتباه للحظة الحالية بطريقة واعية.
وتركز ممارسة اليقظة الذهنية على مراقبة التنفس، والجسد، والأحاسيس، والأفكار دون محاولة تغييرها أو الحكم عليها، وهذا النهج يساعد على تقليل التوتر وتحسين التركيز والإدراك الذاتي.
ويستخدم هذا النوع من التأمل بشكل واسع في برامج علاج القلق والاكتئاب واضطرابات النوم، وقد دعمت الدراسات العلمية فعاليته في تحسين الصحة النفسية والعاطفية.
وقد فصلت اليقظة الحديثة الممارسة عن الإطار الديني البوذي الأصلي، لكنها احتفظت بمبادئه الأساسية في الانتباه الواعي والتقبل، مما جعلها مناسبة للاستخدام في بيئات علمية وطبية معاصرة.
التأمل والتكنولوجيا والصحة العقلية
يقول موقع الأمم المتحدة إن التطور التكنولوجي ساهم في انتشار التأمل، عبر تطبيقات رقمية ومنصات إلكترونية تتيح ممارسته بسهولة في أي وقت ومن أي مكان، مما جعله متاحاً لفئات واسعة من الناس بمختلف أعمارهم وخلفياتهم.
وبحسب المنظمة الدولية فإن ممارسة التأمل تحظى باعتراف متزايد لارتباطها بتحسين الصحة العقلية، وكونها جزءاً من الحق في الصحة، فضلاً عن انسجامها مع أهداف التنمية المستدامة، وتؤكد أجندة التنمية المستدامة 2030 أن الصحة والرفاهية عنصران أساسيان لتحقيق تنمية شاملة.
ويسعى الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، "الصحة الجيدة والرفاهية"، إلى ضمان حياة صحية وتعزيز الرفاهية للجميع في جميع الأعمار، مع التركيز على الصحة العقلية، والتغطية الصحية الشاملة، والحد من أوجه عدم المساواة الصحية، باعتبارها ركائز أساسية لبناء مجتمعات أكثر مرونة وشمولاً.
وتخلص الأمم المتحدة إلى أن تعزيز السلام الداخلي من خلال التأمل يمكن أن يسهم في بناء عالم أكثر استدامة، قادر على مواجهة التحديات الراهنة، من النزاعات المسلحة إلى أزمات المناخ والتغيرات التكنولوجية المتسارعة.
- لماذا تستعين "غوغل" ومثيلاتها ببرامج "التأمل" لموظفيها؟
- كيف يمكن استخدام اليوغا كعلاج نفسي لتحسين صحتك العقلية؟
- اليوغا بأجساد نساء عربيات: نفس، وحريّة، ومقاومة