تسفير

زهرة الخالدي/ المكان نفسه، لكن المعالم تغيرت كثيرا، كان مزدحما، بالكاد وجدتُ موضعا أسند عليه ظهري المتعب، بحثت عن تلك الأشجار الباسقة التي كانت تظلل لقاءنا السريع، كنتُ قد حفرتُ على جذوع الكثير منها أسمينا، لم يبق لها أي أثر، بحسرة انظر إلى تلك البيوت التي حلت بديلا عنها.
عبثا احاول توسل الذاكرة علها تجود ببعض طيف قد يساعد في تذكر ملامحها، كيف أصبحت غريبة عني تلك الملامح التي كنت أطوف في محرابها متعبدا؟!
يوترني مرور كل أنثى، ابحث فيها عن بعض ملامحها، احيانا اختلق ذلك الشبه طمعا بخيط أمل اتمسك به، مسحتُ بعيني المكان، استعطف الوجوه المارة علها تسعف تلك الذاكرة المتجددة… كالجليد الذي يغمر بلاد الغربة التي عدتُ منها مؤخرا، تحاملتُ على نفسي لأذهب إلى الدكان الذي رأيتها فيه إول مرة، أتذكر حينها كيف صغرت الدنيا واختزلت في وجهها الباسم، بملامحه الملائكية البريئة. لم انصت إلى كلام صديقي صاحب الدكان، فقد غاب كل العالم، كان فكري مشدودا إليها فقط.
تكررت لقاءاتنا بعدها… لم أنس صعقة صديقي صاحب الدكان حين أخبرته بحبنا ، وبنيتي في التقدم لخطبتها، بدا حزينا، كنتُ احيانا ألمح طيف دمع يترقرق بعينيه، حين أحدثه عن حبي، أتوهمه سعادة بهذا الحب الذي يغرق به صديقه. حين داهم بيتنا رجال الأمن معتقلين أبي وأنا مع أخوتي الثلاثة الذين يكبرونني في العمر، كانت هي شغلي الشاغل، وتسليتي في المعتقل، حتى تحت وطأة التعذيب الذي تفنن رجال الأمن بممارسته عليّ، كان وجهها الجميل هو ما يصبرني، ويمدني بقوة على مقاومة ذلك التعذيب. حين خرجتُ بعد ستة أشهر، متأرجحا بين العقل والجنون، كانت أملاكنا قد صودرت، رموني على الحدود، بذريعة أن لي جذورا في بلد معاد، لأكتشف إنني الناجي الوحيد من أسرتي. بعدها تلقفتني ديار الغربة.
غذذت السير باتجاه دكان صديقي، بالكاد استطعتُ ان اتبين مكانه، نط أمامي شاب رف قلبي لرؤيته، كانت ملامحه مألوفة ومحببة بشكل غريب، عرفتُ أنه ابن صاحب الدكان.. توجستُ ان اسأل عن والده، لثقتي بأنه سوف يرد عليَّ الرد المعتاد في هكذا مواقف، لقد انتقل إلى الدار الآخرة، ولكن على عكس من ذلك، تفاجأتُ بالرد! إذ رفع صوته بالنداء… -أبي… هناك من يسأل عنك.
جاءني رجل يقربني في العمر، كان شعره أكثر ابيضاضا من شعري، وبدا وكأنه أكبر مني بأعوام كثيرة، عرفته، صديقي صاحب الدكان، لقد آثر البقاء هنا في الوطن، ليقاسي أصناف القهر التي يتفنن فيها مغامرو السياسة، وليتضاعف بسببها عمر من يعيش تحت وطأتها.
احتضنته وسط ذهوله وتساؤلاته:
من انت؟!
انظر إليَّ ألا تتذكرني؟!، أنا مراد الكردي.
بدا مرتبكا وهو يمسح دمعة طفرت من عينه.
صديقي حسبتك مت مع أفراد أسرتك، لقد عثرنا على أسمائهم في قوائم المعدومين. دعاني لمرافقتهِ، وافقتُ بحبور، بدا صديقي مرتبكا وهو يرحب بي في بيته، استغربت تعبيرا لاح في عينيه، كانت تغمرهما نظرة حزن مشوبة بخجل، نادى على زوجته لتسلم عليَّ، يا للحسرة… كانت حبيبتي.