حلبجة.. رجل ستيني يعصر قصب الحياة ليُخرج شراباً لذيذ المذاق (صور)
شفق نيوز– حلبجة
بين بساتين حلبجة التي تفوح منها رائحة الرمان والتفاح،
يقف رجل ستيني بملامح أنهكتها الشمس ويدين خشنتين تحملان ذاكرة الأرض، إنه سيروس
عزت هوراماني، أحد أقدم مزارعي المنطقة، الذي اشتهر بين فلاحي إقليم كوردستان بعصر
قصب السكر وإنتاج شرابٍ تقليدي بات جزءاً من هوية المهرجانات الزراعية في المدينة.
هوراماني، الذي تجاوز العقد السادس من عمره، يزاول
الزراعة منذ صغره، ويعمل اليوم إلى جانب أشهر المزارعين في الإقليم.
حين تزوره في مزرعته الصغيرة على أطراف حلبجة، يرحب بك
بابتسامةٍ يعلوها فخر الأرض، ويشير إلى آلةٍ بسيطة تقف وسط الحقل قائلاً إن
"هذه الآلة صديقتي منذ سنوات طويلة، نعصر بها القصب ونحوّله إلى شرابٍ طبيعي
خالص، في كل موسم، أُشارك بمهرجان الرمان وغيره من المهرجانات الزراعية لأبيع ما
نصنعه من سكرٍ خرج من قلب الأرض".
ويقول هوراماني، لوكالة شفق نيوز، إن "إقليم
كوردستان يُعدّ من أهم المناطق الزراعية في العراق، لما يتمتع به من مناخٍ معتدل
وتربةٍ خصبة"، مشيراً إلى أن "حلبجة نجحت خلال السنوات الأخيرة في توسيع
زراعة قصب السكر حتى بات من المنتجات التي تنافس إنتاج محافظات الجنوب من حيث
الجودة والطعم".
وتابع: "قصب السكر الذي نزرعه هنا في حلبجة له طعم
خاص، لأن مياه الجبال الباردة والتربة الغنية بالمعادن تمنحه حلاوة طبيعية مختلفة،
نحن نزرع بأنفسنا ونعتني بكل ساق منذ أن تكون شتلة صغيرة حتى تصبح عصاً قوية جاهزة
للعصر".
من الأرض إلى المهرجان
مع اقتراب موسم الحصاد، تتحول الحقول إلى لوحة خضراء
طويلة تشبه النخيل الصغيرة، وفي تلك اللحظة، يبدأ هوراماني وفريقه بجمع القصب
وتقطيعه، ثم إدخاله إلى آلة العصر القديمة التي يلفها الحبل ويدار بها العمود
الخشبي، ليخرج منها شرابٌ كثيف القوام يُعرف محلياً باسم "شِراب القصب".
يضيف هوراماني، أن "الطلب على هذا الشراب يزداد في
مهرجان الرمان الذي يقام كل عام في حلبجة، حيث يتوافد الزوار من مختلف مناطق
الإقليم للتعرّف على المنتجات المحلية وشراء الشراب الطبيعي الذي يُقدَّم بارداً
في أكواب صغيرة".
"أنا لا أبيع الشراب فقط، بل أبيع قصة تعبٍ وسنين،
كل قطرة من هذا العصير هي حكاية مزارعٍ عشق أرضه ولم يتركها رغم كل
الصعوبات"، بحسب حديثه.
ورغم بساطة مهنته، أصبح هوراماني رمزاً للمزارعين الذين
تمسّكوا بإنتاج محاصيلهم بطرقٍ تقليدية بعيدة عن المصانع والمواد الكيمياوية،
مبيناً أنه يفضّل العمل اليدوي لأنه يحافظ على الطابع الطبيعي للمنتج ويمنح
المستهلك الثقة بأنه يشرب شيئاً من الأرض لا من المصنع.
قصب حلبجة ذهب أخضر
وللتوسع في الحديث عن زراعة القصب في حلبجة، تحدث
المزارع المعروف مام آزاد، الذي يعدّ من أبرز منتجي المحاصيل الزراعية في
المحافظة، قائلاً لوكالة شفق نيوز، إن "قصب السكر في حلبجة يُعتبر اليوم، من
أنجح المزروعات، ونتائجه أثبتت قدرة الأرض على الإنتاج حتى في الظروف المناخية
المتغيرة. ما يميز قصبنا هو أنه غني بالعصارة وسريع النمو، ويعطي إنتاجاً وفيراً
لكل دونم".
ويشير "مام - العم" آزاد، إلى أن "تجربة
زراعة القصب بدأت على نطاق ضيق قبل أكثر من عشر سنوات، لكنها توسعت بجهود
المزارعين المحليين ودعم مديرية الزراعة في المحافظة"، موضحاً أن
"المساحات المزروعة ازدادت عاماً بعد آخر، حتى أصبحت حقول القصب جزءاً من
هوية الريف في حلبجة".
"لدينا اليوم عشرات المزارعين الذين يعتمدون على
زراعة القصب كمصدر رزقٍ رئيسي، وهناك محاولات لإقامة معمل صغير لاستخراج السكر
الطبيعي من هذه النباتات محلياً، بدلاً من استيراده من الخارج"، وفقاً
للمزارع.
تاريخ من العطاء
لا يرى هوراماني، نفسه مجرد مزارع، بل حامل رسالةٍ تربط
الماضي بالحاضر، فهو يزرع كما زرع أجداده، ويسقي الأرض بعرق جبينه، مؤمناً بأن
الزراعة ليست مهنة فحسب بل أسلوب حياة.
كما يقول وهو يلمس أوراق القصب الطويلة، إن "الأرض
ما تخون، إذا أحبّبتها، تردّ لك الحب مضاعفاً، أنا أعيش معها، وأحسّ أنها تتنفس
معي. هذا القصب هو أولادي، أفرح حينما اشاهده يكبر، وأحزن إذا ذبل".
وفي كل عام، يشهد مهرجان الرمان في حلبجة حضوراً واسعاً
من الأهالي والزوار والسائحين، حيث تُعرض فيه منتجات محلية متنوعة، من الرمان
والعنب إلى العسل والزيت والشراب.
ويكون جناح هوراماني واحداً من أكثر الأجنحة جذباً
للأنظار، إذ يتجمّع الناس حول آلة العصر الخشبية وهم يشاهدون الشراب ينساب بلونه
الذهبي وسط ابتسامة الرجل الستيني.
بينما يرى سامان غريب، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، أن
"سيروس لا يبيع شراباً فقط، بل يبيع حنيناً للأرض وذكريات الطفولة".
ورغم قلة الدعم الحكومي وارتفاع تكاليف الزراعة، يؤكد
هوراماني أنه سيواصل عمله طالما يستطيع الوقوف على قدميه، لأن الزراعة بالنسبة له
ليست مهنة بل هوية، و"الهواء الذي يتنفسه"، موضحاً: "إذا تركنا
الأرض، سوف تموت الروح بداخلنا، كل قصبة سكر تنبت من هنا تذكّرني أن الحياة ممكنة،
حتى بعد كل العواصف".