قبة كركوك "الخضراء".. رمز يغفو على ذاكرة سبعة قرون (صور)
شفق نيوز- كركوك
بين الأزقة المتعرجة لقلعة كركوك، حيث تمتزج رائحة التاريخ بنكهة الغبار القديم، تبرز قبة خضراء، أو كما يسميها الأهالي "قبة بغدادي خاتون" كعلامة شاخصة تختصر قروناً من الحكايات والأساطير والعمارة الإسلامية الفريدة.
وتتقاطع هنا، روايات التاريخ مع وجدان الناس، ليغدو هذا الضريح شاهداً على مزيج من الجمال والأسى، ومن الإهمال والأمل بالترميم.
وتُعد القبة الخضراء واحدة من أقدم المعالم في قلعة كركوك، إذ يؤرخ بناؤها إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديداً عام 762 هـ / 1361 م، في عهد الدولة الجلائرية التي حكمت العراق بعد المغول.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن القبة شُيّدت تخليداً لذكرى فتاة تُدعى "بغدادي خاتون"، يُقال إنها كانت في طريقها إلى الحج، فتوفيت في كركوك، فقام والدها – وهو أحد وجهاء عصره – ببناء هذا الضريح الفخم فوق قبرها ليخلّد اسمها وذكراها.
لكن الحكاية لا تتوقف هنا، فبينما يرى بعض المؤرخين أن القبة شُيّدت لشخصية نسوية من الأسرة الجلائرية الحاكمة، يذهب آخرون إلى أن الاسم قد لا يشير إلى امرأة بعينها، بل إلى لقب رمزي منسوب إلى بغداد عاصمة الجلال في ذلك الزمن.
تحفة معمارية تتحدى الزمن
وتُعد القبة الخضراء من أجمل النماذج المعمارية الإسلامية في شمال العراق، حيث تبدو من الخارج مثمنة الشكل، تغطيها طبقات من القاشاني الأزرق والأخضر المتدرج، الذي أكسبها اسمها الشعبي "الخضراء".
أما من الداخل، فتضم القبة غرفة ضريحٍ مزخرفة بنقوش هندسية وخطوط عربية كوفية، تشهد على براعة الصُنّاع في القرن الرابع عشر.
ويقول المهندس الأثري سعد الدين محمد، المتخصص بترميم الآثار في كركوك، إن "تصميم القبة يعكس تأثيرات الفن المغولي والإيراني"، موضحاً أن "الزخارف الموجودة فيها شبيهة بتلك التي نراها في أضرحة تبريز وسمرقند، مع إضافة لمسات محلية من الطين والجصّ الكركوكي التقليدي".
ويضيف محمد في حديثه لوكالة شفق نيوز، إن "القبة تتكون من طابقين، أحدهما تحت الأرض يضم سرداباً كان يُعتقد أنه مكان دفن الأسرة، والطابق العلوي هو قاعة الضريح الرئيسة، وكانت تعلوه قبة خارجية مغطاة بالبلاط المزجج الذي تهدّم معظمُه بفعل الزمن والإهمال".
الإهمال يهدد الذاكرة
وعلى الرغم من القيمة التاريخية الهائلة للقبة، فإنها اليوم تواجه تصدعات وانهيارات واضحة في جدرانها، حيث تغيب عنها الصيانة الدورية، وتحيط بها مبانٍ متهالكة داخل القلعة التي أُغلقت أكثر من مرة أمام الزوار بسبب خطر الانهيار.
ويقول جبار قادر، وهو من سكان القلعة القدامى، لوكالة شفق نيوز، إن "القبة كانت مكاناً نحبه منذ الطفولة، كنا نزورها في الأعياد ونقرأ الفاتحة عندها، لكن اليوم نراها وحيدة، بلا صيانة ولا اهتمام، حتى البلاط الأزرق الذي كان يلمع في الشمس تساقط جزء كبير منه".
وحاولت مديرية الآثار في كركوك، في عام 2018، إجراء أعمال ترميم محدودة، لكنها توقفت بعد أشهر بسبب نقص التمويل وتبدّل الإدارات المحلية، ما جعل المشروع حبراً على ورق.
بين الأسطورة والروحانية
لم تكن القبة يوماً مجرد بناء أثري، بل تحوّلت عبر العقود إلى رمز روحي في ذاكرة المدينة.
ويقول الباحث التراثي، مثنى عبد القادر، إن "قصة بغدادي خاتون تمثل في الوعي الشعبي رمزاً للحب والوفاء، فوالدها الذي شيّد لها هذا الضريح جعل منها قصة أبدية عن الأبوة والحنين".
ويضيف، في حديث لوكالة شفق نيوز، إن "الكثير من الزوار، من مختلف المكونات الدينية في كركوك، كانوا يزورون القبة للدعاء والتبرك، في مشهد نادر يعكس وحدة المدينة وتنوعها الروحي".
وتقع القبة ضمن مجمع قلعة كركوك التاريخية، التي تضم أيضاً مواقع مسيحية وإسلامية ويهودية، من أبرزها جامع النبي دانيال وكنيسة أم الأحزان وبيت قاضي القلعة.
وتسعى السلطات المحلية منذ سنوات لإدراج القلعة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، لكن ضعف الإجراءات الفنية والإدارية حال دون استكمال الملف.
ويقول رائد عكلة مدير آثار وتراث كركوك، لوكالة شفق نيوز، إن القبة "تشكل جزءاً أساسياً من هذا الملف، لكونها تمثل مثالاً حياً على تداخل الثقافات الإسلامية والثقافات الاخرى مع التراث المحلي".
وأضاف، "نحن نعمل على وضع خطة ترميم شاملة، تُنفّذ بإشراف خبراء دوليين، لأن أي عمل عشوائي قد يُفقد القبة أصالتها التاريخية".
بين الماضي والمستقبل
ويقف الزائر أمام القبة الخضراء اليوم، ليرى ما تبقى من فسيفساء الألوان القديمة التي قاومت سبعة قرون من الرياح والمطر والإهمال.
وعلى الرغم من تشققات الجدران وتساقط البلاط، تبقى القبة رمزاً للهوية الكركوكية التي جمعت العرب والتركمان والأكراد في ظلها عبر العصور.
وحين تسقط أشعة الغروب على بقايا القاشاني، في مساءٍ كركوكي هادئ، تلمع القبة للحظات وكأنها تستعيد مجدها القديم، وربما هو نداءٌ خافت من الحجر نفسه، يذكّر بأن التاريخ لا يموت، بل ينتظر من يمدّ إليه يد العناية.
القبة الخضراء ليست مجرد شاهد أثري منسي في قلعة كركوك، بل مرآة لذاكرة المدينة، وتعبير عن روحها التي لا تزال تنبض رغم ما مرّ بها من صراعات وإهمال.