شارع المتنبي.. مخاوف الأفول بضياع الكتاب والقارئ ومكتبات خجولة في القيصيرات

شفق نيوز/ عند الحاجة إلى كتاب ما، فإن الوجهة ستكون حتماً نحو شارع المتنبي في بغداد، حيث يذهب الباحث عن حاجته إلى الشارع وهو متيقن بوجوده هناك، وما أن يصل حتى تحجب عنه الرؤية بسطات ألعاب الأطفال عند الدخول من جهة الرصافي وبعدها ينظر الى اليمين واليسار ليجد محال القرطاسية والطباعة، ثم بسطات على جانبي الشارع لا تتجاوز الكتب المعروضة فيها 100 كتاب، ومعظم تلك الكتب غير ملبية للحاجة المرجوة.
في هذا الشارع تعد المكاتب على أصابع اليد، وعند سؤالنا أين اختفت المكتبات أجاب أحد كبار السن من رواد الشارع، انها في تلك القيصيرية وأشار إلى قيصيرية لا يتجاوز عرضها المتر ونصف المتر انحسرت فيها المكاتب وباتت غائبة عن العين عند دخول الشارع.
وشهد شارع المتنبي في الآونة الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في أعداد المكتبات ودور النشر التي كانت تزدحم بهذا الشارع، وحلت بدلاً عنها وبشكل تدريجي محال بيع القرطاسية والأدوات المكتبية التي أصبحت حالياً تنتشر على طول الشارع.
تغيير البنية الثقافية
غابت المكتبات التي كانت تعرض في واجهاتها كتباً بمختلف التصنيفات العلمية والادبية، وتراجعت مبيعات الكتب بشكل كبير، الامر الذي يؤشر تغييراً كبيراً في بنية الشارع الثقافية.
يقول ستار محسن علي، صاحب دار نشر في شارع المتنبي إن "الطابع الرسمي للشارع هو المكتبات الكثيرة التي كانت تكتظ بمئات المعاجم والمصادر والكتب الأدبية والفلسفية والعلمية، وأن الأوراق والأقلام والقرطاسية وأجهزة الاستنساخ والطابعات هي مجرد مكملات لهذا الشارع".
ويضيف في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن "انتشار محال القرطاسية في الوقت الحاضر بشكل يفوق أعداد المكتبات يعود لرغبة أصحاب المحال بممارسة نشاط تجاري جيد، وهو ما تحققه مبيعات القرطاسية".
المكاتب، بحسب ستار، لا تدخل ربحاً مادياً جيداً لعزوف الناس عنها، وبذلك يصعب دفع إيجارات المحال على جانبي الشارع فهي تتراوح من 2 إلى 3 ملايين دينار شهرياً، لكن في القيصرية يبلغ إيجار المحل 350 ألف دينار وهو سهل في بعض الأحيان وأحياناً يتم دفعه من جيوبنا".
ويؤكد ستار، أن "أصحاب المكتبات وبسطات الكتب القدامى لم يرفعوا الأسعار، وحافظوا على حضورهم الثقافي في الشارع، لأنهم معنيون بالكتب والفكر أكثر من أي شيء آخر".
ويلفت إلى أن "شارع المتنبي يخسر كل شهر مكتبة واحدة، إذ يقوم أصحابها بغلقها"، معرباً عن خوفه من أن تصل أعداد المكاتب في هذا الشارع لـ"أصابع الكف الواحدة".
ويتابع، أن "تراجع المكتبات ومبيعات الكتب بشارع المتنبي يعود إلى رغبة كثيرين بقراءة الكتب الالكترونية، والحصول على المعلومات من خلال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بدلاً من الكتب الورقية المطبوعة، بيد أن مثل هذه القراءات لن تحقق قراءة ناضجة لمحتوى الكتاب، كما لا يُعترف بمصادر الانترنت في البحوث الأكاديمية".
غياب الدعم الحكومي
ويحمّل ستار المؤسسات فشل معارض الكتب في العراق، ويشير إلى أن "فشل هذه المعارض يأتي من عدم وجود مؤسسات تقتني الكتب من هذه المعارض وتنحصر مبيعات الكتب في المعارض على القرّاء وحسب، وهذا هو السبب في انخفاض أعداد المبيعات في معارض الكتب".
ويشير إلى أن "الدعم الحكومي معدوم جداً لأصحاب المكتبات، ففي دول الخليج تدعم الحكومة المطابع فإذا هناك مطبعة تطبع 5 آلاف كتاب، فإن الحكومة تأخذ ألفي نسخة ترفد بها المكاتب العامة، والكليات أما في العراق فلا يوجد ذلك".
ويضيف أن "عمليات استنساخ الكتب أثرت بشكل كبير على عمل المكتبات وغياب الحقوق الفكرية أدى إلى ضياع حقوق الطبع".
ومنذ أكثر من قرن كان شارع المتنبي مؤهلاً للعلم والمعرفة والثقافة والإبداع والحوار، وشكل في الذاكرة الثقافية العراقية طابعاً فريداً وأصبح مقصداً للمثقفين والسياح العرب والأجانب، الذين كانوا ينهلون الكتب ويلتقون بالمبدعين في هذا الشارع الثقافي العريق الذي لم تتوقف نشاطاته الثقافية، ولا مبيعات الكتب حتى في أحلك الظروف الاقتصادية التي شهدها العراق خلال عقد التسعينيات.
وتتميز المكتبات والمحال في شارع المتنبي بارتفاع أسعار إيجاراتها، إلا أن بعض المكتبات مؤجرة من قبل بعض المؤسسات الحكومية بأسعار تبدو بسيطة للغاية بالقياس لإيجارات أصحاب الملك الشخصي لتلك المحال والمكتبات الذي يطلبون أسعاراً كبيرة للإيجار السنوي يتجاوز 100 ألف دولار.
وينوه صاحب أحد المكتبات، وقد رفض الكشف عن اسمه بأنه استأجر مكتبته من إحدى المؤسسات الرسمية، وهو يدفع مبلغاً معقولاً للايجار الشهري.
ويضيف في حديث لوكالة شفق نيوز، أن "العديد من مستاجري المكتبات المملوكة لأشخاص، تركوا عملهم لأنهم لا يستطيعون دفع الإيجارات الكبيرة مع تراجع أعداد المبيعات وأعداد القراء".
ويشير إلى أن "عدداً من باعة الكتب، تركوا المحال واستبدلوها ببسطات أو محال صغيرة لبيع القرطاسية لتحقيق الأرباح المنشودة من عملهم".
القرطاسية تتفوق
وانزوت بعض المكتبات الكبيرة المعروفة بشارع المتنبي، وتم حصرها في عمارة تضم نحو 10 مكتبات كبيرة بعد إعمار منطقة السراي، وتعذر الوصول إلى تلك المكتبات، فيما احتلت بسطات ومحال القرطاسية الشارع بشكل لافت.
ويقول أصحاب المكتبات، إنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على بيع الكتب كمصدر رزق وحيد.
ويقول جاسم ريسان صاحب مكتبة إن "مبيعات الكتب لم تعد تحقق الأرباح كما كانت سابقا لأسباب عديدة".
ويؤكد لوكالة شفق نيوز، أنه "لابد من إضافة ملحقات للمكتبة من أجل استمرار العمل ومنها القرطاسية والطابعات وأجهزة الاستنساخ وحتى المواد الكمالية التي تلحق بالمكتبات كالحقائب والميداليات وغيرها".
فيما يرى أصحاب بسطات ومحال القرطاسية انهم لا ينافسون أصحاب المكتبات في عملهم.
ويشير صاحب محل قرطاسية بشارع المتنبي، إلى أن عملهم يزدهر في بدء العام الدراسي لأن أغلب الزبائن هم من الطلبة وعائلاتهم.
ويضيف في حديث للوكالة، أن "عملنا في القرطاسية لا يتوقف، فهناك الوزارات والمؤسسات الحكومية وأصحاب المحال في مناطق مختلفة وشركات القطاع الخاص يقصدون شارع المتنبي للتزود بالقرطاسية، وايضاً موسم المدارس، وهو ما يوفر لنا مبيعات مستمرة وأرباحاً جيدة".
أين الكتّاب؟
الشارع الثقافي لم يكن على سابق عهده فقد أصبح عشوائياً ولا يقتصر على الأدباء والمثقفين كما كان، بل أصبح عاماً ومفتوحاً للجميع، وهو ما أفقده تأثيره الثقافي، وفق مثقفين.
ويقول علي كريم أحد القراء المواظبين على المكتبات في شارع المتنبي، إنه "منذ أكثر من ثلاثة عقود، كان شارع المتنبي زاخراً بالكتب القيمة والمصادر النادرة".
ويضيف في حديث لوكالة شفق نيوز، أن "الشارع لم يعد كذلك فقد أصبح عاماً وتوارت المكتبات الفخمة عن الشارع الرئيسي، ولم اجد حضوراً لكتاب كبار تركوا مؤلفات أثرت المشهد الثقافي العراقي بروايات ومجموعات قصصية مهمة".
ويتابع: "كانت المكتبات الكبيرة تنتشر على جانبي الطريق في شارع المتنبي فيما يفترش باعة الكتب الارصفة لعرض كتب جاذبة من الفكر العربي والأجنبي، أما اليوم فلا يجد السائح العربي والأجنبي في رصيف الثقافة سوى باعة ألعاب الأطفال القرطاسية، ولا يعثر على المكتبات إلا بصعوبة وبشكل عام فقط البسطات البسيطة"، لافتاً إلى أن "ذلك أفقد الكثير من خصائص وهوية شارع المتنبي".
ومما لاشك فيه فان أصحاب المكتبات يواجهون تحديات تهدد استمرار عملهم، في وقتٍ يحتاج فيه الشارع إلى لمسة توضح معالمه الحقيقية وتحافظ هويته الثقافية.