حين يدور الماضي في الحاضر.. نواعير هيت تقاوم الاندثار وتجذب السائحين (صور)
شفق نيوز - الأنبار
في مدينة هيت، حيث يسير الفرات بهدوء بين
الحقول وبساتين النخيل، ما تزال أصوات نواعير الماء تُسمع وهي تدور ببطء، تصدر
صريراً خشبياً يشبه أنين الزمن البعيد.
هذه المنشآت التراثية التي مضت عليها
قرون، عادت لتأسر انتباه الزائرين من مختلف مدن العراق وحتى من دول الجوار، بعد أن
ظلت لعقود حبيسة الإهمال والنسيان.
ويقول محمد الهيتي، الباحث في التراث
الشعبي، لوكالة شفق نيوز، إن "هذه الناعورة عمرها ربما يزيد على 400 سنة،
النواعير هنا ليست مثل غيرها، فهي جزء من الطابع الاجتماعي والثقافي للمدينة، كانت
تُسمّى بأسماء العائلات التي تبنيها أو ترعاها، وكان يُحتفى بها كما يُحتفى بمولود
جديد".
ويضيف أن "مدينة هيت كانت تعتمد على
هذه النواعير لري بساتينها، خصوصاً حين كانت الزراعة تمتد على ضفتي الفرات لمسافات
طويلة"، مبيناً أن "ما يميز نواعير هيت أنها مصنوعة بالكامل من الخشب
المحلي، ولا تحتوي على أي معدن، وهذا يُعتبر من مقومات الأصالة المعمارية".
نواعير هيت، هي آلات مائية تراثية مصنوعة
من الخشب، تعمل بقوة دفع مياه نهر الفرات، وتستخدم منذ قرون في رفع المياه من
النهر إلى الأحواض العلوية، ومن ثم توزيعها عبر قنوات لسقي البساتين وتوفير المياه
للمدن الواقعة على ضفافه.
تنتشر هذه النواعير بشكل خاص في مدن هيت
وعانة وحديثة والقائم بمحافظة الأنبار، وتُصنع عادة من خشب شجرة التوت
"التوث" لما يتميز به من صلابة ومتانة.
السياحة في ازدهار
من جانبه، يقول مصطفى العاني، ناشط بيئي
وسياحي، وهو من أبناء المدينة الذين يرافقون السياح في جولاتهم، أنه "مع تحسن
الأوضاع الأمنية، بدأت المدينة تشهد إقبالاً متزايداً من الزوار".
ويتابع العاني، حديثه قائلاً إن "قبل
عام 2018، لم يكن أحد يجرؤ على المجيء إلى هنا بسبب الأوضاع الأمنية، لكن اليوم،
نُظّم أكثر من 40 رحلة سياحية إلى هيت، كان أبرز ما يُعرض فيها هو النواعير".
ويشير إلى أن "السائحين ينبهرون
عندما يرون كيف تعمل الناعورة فقط بطاقة المياه، من دون أي محرك بعضهم يعتقد أنها
مجسمات للزينة حتى نُريهم كيف ترفع الماء حقًا، ونسقي الزرع أمامهم".
وفي العام الماضي، شهد متنزه "نواعير
هيت" حملة إدامة تطوعية، نفذتها منظمة أيادي الرحمة بتمويل من الوكالة
الأمريكية للتنمية الدولية، وبمشاركة عدد من نشطاء المدينة وأعضاء برنامج سفراء
شباب، حيث استمرت لثلاثة أيام لتشمل تنظيف المتنزه والكورنيش وصيانة الإنارة
وتأهيل مباني المرافق الصحية وغيرها من الأمور.
تحديات كبيرة
لكن رغم هذه الانتعاشة، يقابلها تحديات
كبيرة امام تراث النواعير، حيث تقول نادية الدليمي، الباحثة في العمارة الإسلامية
والتراث إن "بعض عمليات الترميم، تتم بطريقة عشوائية، يتم استخدام مواد
صناعية بدلاً من الخشب الطبيعي، ما يفقد الناعورة طابعها التقليدي ويهدد بانهيارها
مع الزمن، كما أن انحسار مياه الفرات، بسبب السدود في المنبع، جعل من الصعب على
بعض النواعير أن تعمل كما كانت سابقًا".
وفي حديث لوكالة شفق نيوز، تضيف أنه
"من المؤسف ألّا تكون هذه النواعير مدرجة حتى الآن ضمن لائحة التراث الوطني
العراقي، ناهيك عن التراث العالمي، هذه فرصة للحكومة المحلية بالتعاون مع الجهات
الأكاديمية لترشيحها لدى اليونسكو".
إلى ذلك، يشير الناشط أحمد الراوي إلى
"أهمية إشراك سكان هيت أنفسهم في حماية النواعير"، مضيفاً أن "بعض
العائلات القديمة ما زالت تحتفظ بذكريات دقيقة عن كيفية بناء الناعورة، أسماء
أجزائها، طريقة تشغيلها، يجب أن نستثمر هذه الذاكرة الحية ونوثقها، ربما عبر مركز
تراثي أو متحف محلي".
ويضيف أن "في أحد المشاريع التي نعمل
عليها بالتعاون مع طلاب في جامعة الأنبار، بدأنا بتسجيل شهادات كبار السن عن
النواعير، وسنصدر كتيّباً بهذا الخصوص قريباً".
ولم تعد نواعير هيت مجرد بقايا من الماضي،
بل أصبحت رموزاً لنهضة ثقافية وسياحية، هي جسور بين الأجيال، وتذكير دائم بأن ما
يدور حولنا ليس فقط الماء، بل التاريخ والهوية والحياة.
ورغم قيمتها التاريخية والهندسية، لم
يتبقَ منها اليوم سوى أقل من عشرين ناعورة، وفقاً للمؤرخين، بعد أن تسببت قلة
منسوب مياه الفرات وإقامة السدود على مجراه في اندثار الغالبية العظمى منها.
ومع ذلك، تتواصل الجهود المحلية للمحافظة
على ما تبقى منها، وسط مساعٍ رسمية وشعبية لإدراج نواعير العراق ضمن قائمة التراث
العالمي لما تحمله من دلالة حضارية وهوية ثقافية فريدة.