جنوب العراق.. صراع على من يملك حق إسكات الموسيقى

جنوب العراق.. صراع على من يملك حق إسكات الموسيقى احتجاج لرجال دين على حفل غنائي في البصرة
2025-11-25T12:56:05+00:00

شفق نيوز- تقرير خاص

قبالة كورنيش البصرة، كانت اللافتات الإعلانية لحفل الفنان محمد عبد الجبار ما تزال معلّقة، بينما خلت الساحة من المنصة التي كان يُفترض أن تُضاء فوقها الأضواء الكاشفة.

الشركة المنظمة أعلنت إلغاء الحفل قبل موعده، وبرّرت القرار بعبارة حملت مزيجاً من الأسف وتعرّضها لتهديد خفي حين قالت إن "أضواء المسرح أُطفئت لأن حماية الأرواح صارت أهم من رغبة الاحتفال، وإن الأغاني يمكن أن تُعاد أما الأرواح فلا تُعاد، وإن البصرة تتوجع ولا أحد يسمع".

الإلغاء جاء بعد احتجاجات قادها رجال دين في البصرة، رفعوا خلالها شعارات عن الغيرة والحياء ورفض ما وصفوه بـ”الحفلات الماجنة”، في مشهد يتكرر منذ سنوات في مدن عراقية عدة كلما اقترب موعد حفلة غنائية أو فعالية فنية عامة.

وراء هذه الوقائع اليومية سؤال أعمق يتجاوز حفلاً في مدينة جنوبية، ويتعلق بملف أوسع هو ملف القدسية في العراق: من يعرّف المدينة المقدسة؟ ومن يقرر حدود الفرح المسموح به في الفضاء العام؟

جدل عابر للمحافظات

قبل البصرة بأيام قليلة، كانت الناصرية مركز محافظة ذي قار تعيش جدلاً مشابهاً. هناك أُقيم حفل للفنان نفسه ضمن فعالية ترويجية لمشروع استثماري قرب مطار المحافظة الجديد. الحفل جذب عائلات وشباباً أرادوا اختبار ما يشبه الحياة الطبيعية في مدينة مثقلة بأزمات الماء والبطالة والاحتجاجات.

لكن مجموعة صغيرة من المحتجين، بعضهم مرتبط بجهات سياسية دينية، نظّمت وقفة في المدينة ووصفت الحفل بأنه اعتداء على "قدسية الناصرية" و"مدينة الشهداء والشعائر الحسينية".

في المقابل، دافع كثيرون من سكان المدينة عن حقهم في الغناء بوصفه جزءاً من تاريخ المكان الذي خرجت منه أجيال من الشعراء والمطربين والأطوار الغنائية العراقية، من الطور الشطراوي إلى أطوار الريف الجنوبي.

الجدل لم يتوقف عند حدود النقاش على مواقع التواصل. بعد أيام من الحفل، تقدّم عضو في مجلس ذي قار بمقترح رسمي يدعو إلى منع الحفلات المركزية داخل حدود المحافظة، مستنداً إلى ما سماه الحفاظ على العادات الاجتماعية والحديث المتكرر عن القدسية كلما تعلّق الأمر بالغناء أو الموسيقى.

المقترح وثقته مخاطبات رسمية تسربت إلى الصحافة المحلية، وأظهرت كيف انتقل النقاش من الشارع إلى طاولة القرار المحلي.

صوب الجنوب، إلى البصرة، اتخذ النقاش طابعاً أكثر مباشرة حول هوية المدينة نفسها.

الشيخ رعد البهادلي، رئيس مركز الجنوب الثقافي، شارك في تظاهرة الكورنيش التي سبقت قرار الإلغاء، ويقول لوكالة شفق نيوز إن تحركهم كان من "أجل العزاء والمواساة بذكرى استشهاد فاطمة الزهراء (بنت نبي الإسلام محمد)، وإن الاعتراض على الحفلات ليس مرتبطاً فقط بتزامنها مع المناسبة بل هو موقف مبدئي لأن البصرة محافظة حسينية إسلامية"، بحسب قوله.

يضيف البهادلي أن "الاحتجاج كان سلمياً، وأن مجلس محافظة البصرة شاركهم الرأي، ويرى أن إقامة حفلات راقصة في الأماكن العامة تقود إلى الانفتاح والانحلال، وأن واجب رجال الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

على الطرف الآخر، تتحدث نقابة الفنانين بلغة مختلفة تماماً. فتحي شداد، رئيس فرع النقابة في البصرة، يرى أن المحافظة ذات طابع مدني لا ديني، حيث تضم مسيحيين وصابئة وآخرين، وتستقبل سياحاً وأجانب بحكم موقعها البحري وحدودها المفتوحة على الخليج والعالم.

بالنسبة إليه، ما جرى خلال الانتخابات في المدينة الرياضية التي شهدت حفلات غنائية واسعة يؤكد أن البصرة آمنة وقادرة على استضافة الفعاليات الفنية، وأن سؤال من يقف وراء محاولة منع الحفل يظل بلا جواب واضح.

من زاوية حقوقية، يحذّر علي العبادي، رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان، من أن إعلان الشركة المنظمة تلقيها تهديدات يمثل سابقة خطيرة للتنوع الفكري والمدني في البصرة، ويقول إن موعد الحفل لم يكن متزامناً مع المناسبة الدينية، ما يعزّز الانطباع بأن جهات دينية تحاول فرض وصايتها على المدينة، وأن لا وصاية لأي جهة على المواطن، وأن البصرة مدينة للتعايش ومحبة للسلام، وما جرى حادث مؤسف يجب ألا يتكرر.

أما عضو مجلس محافظة البصرة علي العبادي فيلفت إلى أن الأولوية يجب أن تكون لمحاربة الفساد والابتزاز ومحاسبة سراق المال العام بدلاً من تقييد الحريات وفرض الرأي على الآخرين، ويشدد على أن إقامة الحفلات في الحدائق الخاصة لا يعدّ انتهاكاً للقانون أو تهديداً للسلم المجتمعي.

بين هذه المواقف المتباينة، يجد الجمهور نفسه بين خطابين: أحدهما يرفع راية القدسية، والآخر يتحدث عن مدنية المدينة وحقها في الفرح.

نقابة الفنانين ترد بصوت مركزي

الجدل في الناصرية والبصرة دفع نقابة الفنانين في بغداد إلى إصدار موقف أوسع، حيث توعدت باتخاذ إجراءات قانونية ضد ما وصفته بالجهات التي تدّعي التدين بعد موجة الضغوط والاحتجاجات في محافظات جنوبية لمنع الحفلات والفعاليات الفنية.

نقيب الفنانين جبار جودي قال إن الأفعال المدفوعة لإلغاء الحفلات خرقت الدستور الذي يكفل حرية الرأي والتعبير، محذراً من أن استمرار هذا النهج قد يعرّض البلاد لعزلة ثقافية واهتزاز في صورتها ويقلص الفضاء الثقافي والفني.

يشير جودي إلى المادة 38 من الدستور التي تلزم الدولة بكفالة حرية التعبير والصحافة والاجتماع والتظاهر السلمي، وهي مادة تستند إليها أيضاً منظمات حقوقية تؤكد أن التضييق على الفعاليات الفنية يتعارض مع جوهر النظام الدستوري بعد 2003.

في المقابل، يستند معارضو الحفلات إلى المادة الثانية التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابته، ما يفتح الباب لتأويلات متناقضة حول حدود ما هو مباح في الفضاء العام.

ملف قديم بثوب جديد

ما يحدث اليوم في الناصرية والبصرة ليس حالة معزولة، بل حلقة جديدة في سلسلة بدأت تتضح ملامحها منذ أعوام.

في 2019 أثار افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم في ملعب كربلاء الدولي عاصفة من الجدل بعدما عزفت شابة النشيد الوطني على آلة الكمان ورقصت بعض السيدات في الحفل، الأمر الذي دفع ديوان الوقف الشيعي إلى رفع دعوى قضائية على اتحاد الكرة بحجة مخالفة ضوابط المدن المقدسة والأخلاق العامة.

بعد ذلك بعامين، وجد مهرجان بابل الدولي نفسه تحت الضغط عندما أُلغيت الفعاليات الغنائية بناءً على دعاوى من طلاب علوم دينية وشخصيات اجتماعية رفعت شعار الحفاظ على قدسية المحافظة، وهو ما أثار موجة اعتراض فنية وثقافية اعتبرت أن تراث بابل نفسه قائم على الموسيقى والفن.

في بغداد أيضاً، تعرضت شركات تنظيم حفلات إلى تهديدات وحملات تشهير عبر وسائل التواصل، ما دفع بعضها إلى إيقاف الحفلات الغنائية بشكل كامل، في سياق ضغط مارسته قوى وأطراف دينية وسياسية اعتبرت أن هذه الفعاليات تخالف الأعراف أو تتزامن مع مناسبات دينية.

وفي 2022 أُلغي حفل للمطرب المغربي سعد لمجرد في العاصمة بعد حملة قادتها فصائل وأطراف دينية وشعبية، بعضها اعترض بدعوى القدسية والأعراف الدينية، وبعضها استند إلى الاتهامات القضائية التي طالت الفنان في قضايا تحرش واغتصاب. تلك الواقعة غذّت مجدداً نقاشاً واسعاً في العراق حول سؤال ما إذا كانت البلاد تسير نحو نموذج دولة دينية تتحكم فيها قوى الإسلام السياسي في الفضاء العام، أم دولة مدنية تحكمها القوانين فقط.

كما يرى ناشطون مدنيون وباحثون أن الجدل حول الحفلات الغنائية في مدن الجنوب لم يعد مجرد نقاش حول الذوق العام، بل تحوّل إلى مؤشر على شكل الدولة التي تتشكل في العراق، ومدى قدرة القانون والمؤسسات على حماية الفضاء العام من ضغوط الخطاب الديني المتشدد. كل حفل يُلغى تحت وطأة التهديد أو بدعوى القدسية، يُقرأ بوصفه خطوة إضافية نحو تضييق مساحات التنوع، ويمنح وزناً أكبر لمن يفضّل الشارع على النص الدستوري في تنظيم حياة الناس.

في المقابل، يذهب الرأي إلى أن الدفاع عن الحريات لا يعني بالضرورة تجاهل الحساسيات الدينية والاجتماعية، بل البحث عن معادلة تضمن احترام المناسبات والمشاعر الدينية من دون أن يتحول ذلك إلى أداة لمنع الفنون أو تقييد أنماط الحياة المختلفة.

في المحصلة، لا تبدو معركة الحفلات الغنائية والفعاليات الفنية في الجنوب مسألة ذوق أو مزاج عابر، بل اختباراً عميقاً لطبيعة الدولة العراقية وحدود سلطتها أمام نفوذ الجماعات الدينية والخطابات المتشددة.

وما بين من يرفع شعار قدسية المدن ومن يتمسك بمدنيتها، يبدو أن السؤال الحقيقي لا يزال معلقاً فوق منصات لم تُبنَ بعد في الناصرية والبصرة وغيرها من المدن العراقية: من يقرر إيقاع الحياة في هذه البلاد؟ النصوص الدستورية التي تتحدث عن الحريات، أم الأصوات التي تكتفي بكلمة “حرام” كي تطفئ أضواء المسرح قبل أن تُضاء؟

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon