"اللطم".. تجسيد واقعي للحزن يمتد لمئات السنين

شفق نيوز- بغداد
كفوف تضرب الصدور حتى تحمّر، وسط صراخ وعويل بصوت مرتفع، هكذا يشكلن النسوة من مختلف الأعمار، حلقة متشحة بالسواد، وهن ينعين فقديهن، في طقس "اللطم" الذي يشكل الجزء الأهم من الموروث الشعبي بمجالس العزاء "الفواتح"، وسرعان ما اقترن بطقوس شهر محرم، وأنعكس بكل جوانبه ليحي ذكرى واقعة الطف.
مشهد النسوة، وهن يتجمعن في المنزل الذي يشهد حالة وفاة "الفاتحة"، ويبدأ بحلقة اللطم التي تتكرر مرات كثيرة خلال اليوم، ويكون خاتمتها مع ختام مجلس العزاء في اليوم الثالث، وهو السياق الذي كان سابقا متبعا، قبل أن تتحول مجالس العزاء ليومين فقط مؤخرا، كان من أبرز جوانب "الفواتح الجنوبية"، حيث يسمع صوت اللطم وصراخ النسوة من خارج المنزل.
وبهذا الصدد، يقول الباحث الاسلامي الشيخ فيصل الكاظمي، لوكالة شفق نيوز، إن "فقرة (اللطم) تحتل موقعاً لافتاً في مراسم إحياء عاشوراء وإحياء شهادة المعصومين عليهم السلام".
ويضيف: "تطورت ظاهرة (اللطم) في مراسم العزاء من جيل لآخر، وأصبحت لها أعراف خاصة وأنماط معينة، وزاد من تطوّرها تخصص البعض في إنشاد الشعر الرثائي بطرق وأساليب تراعي هذه الأنماط، فيما يتألق بعض (الرواديد) في زيادة وتيرة تتناغم مع نوبات اللطم".
وأشار إلى "تميز البلدان والمناطق بأسلوب معين من أساليب اللطم المرتبط بمراسم عاشوراء، فالشيعة الهنود لهم أسلوب عاطفي في نمط لطم متواصل وسريع، كما يتميز أهل البحرين بنمط خاص من اللطم ذي النوبات الكثيرة بحماس وإيقاع خاص، وثمة طرق واضحة بين مدينة وأخرى في العراق، فهناك لطم كربلائي وآخر نجفي وآخر جنوبي وهكذا".
وتعزز مسار اللطم وشمل الرجال والنساء على حد سواء، وأصبحت مجالس رجالية تعقد لهذا الغرض، لأن اللطم لم يعد مجرد إرث، بل شعيرة مهمة عند المسلمين الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 للهجرة.
ويستند الشيعة الى هذه الشعيرة واهميتها عبر مصادر كثيرة ومنها زيارة الناحية المعتبرة عند الشيعة الواردة عن الإمام المهدي بن الحسن إلى أن عائلة الامام الحسين هن أول من لطمن ساعة استشهاد الإمام، إذ ورد في الزيارة فقرة تشير الى ذلك وهي ،"فلما رأين النساء جوادك مخزياً والسرج عليه ملوياً خرجن من الخدور بارزات وعلى الخدود لاطمات".
وورد اللطم عند العرب بمعنى ضرب الخد بالكف، كما يشير الى ذلك دعبل الخزاعي في قصيدته التائية المعروفة:
أفاطم لو خلت الحسين مجندلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات
اذن للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين بالوجنات
ويطلق الشيخ الكاظمي تسمية "اللطم النعوي" على اللطم بمعنى ضرب الصدور وبرز كنمط من أنماط إبداء الحزن والتجاوب العاطفي مع أحداث كربلاء، وهو ما يمكن أن يسمى "باللطم الهادف" الذي أصبح أسلوباً من أساليب إحياء واقعة الطف.
وفي مجالس العزاء النسائية "الفواتح" التي تقام في المنازل عند وفاة أي شخص، تتوسط امرأة، يكون عمرها بالعادة في الأربعينيات وأكثر، تسمى "الملاية"، وهي المسؤولة عن إنشاد القصائد المبكية بصوت متهدج ومرتفع، وتكون قصائدها حسب المتوفي، شاب أو فتاة او رجل ذو مكانة كبيرة وغيرها، وتتمتع بقدرة للتحكم بطبقات صوتها وإيقاع الإنشاد بطريقة مؤثرة جدا، تدفع حتى الرجال القريبين من المكان للبكاء.
حلقة النسوة المغلقة، التي لا يدخلها رجل، تأخذ منحنيات كثيرة، حيث تبدأ باللطم الخفيف والبكاء، وصولا لمرحلة اللطم السريع والقوي، ويصل مرحلة تمزيق الملابس.
ويرى الخطيب الحسيني الشيخ عدنان الكعبي، أن "أول إشارة تتعلق بلطم الصدور وردت يوم عاشوراء عند استشهاد علي الأكبر نجل الإمام الحسين عليه السلام".
ويشير الكعبي في حديثه لوكالة شفق نيوز، إلى أن "الهاشميين نقلوا علي الأكبر إلى المخيم بعد استشهاده فاستقبلته النساء، ينظرن إليه محمولاً وقد جلّلته الدماء بمطارف من العزّ حمراء، وقد وزع جثمانه الضرب والطعن فاستقبلنه بصدور دامية"، مؤكداً، أن "العديد من قصائد الرثاء الحسيني وردت بها كلمة اللطم، وكثيراً منها كان يلقى في مجالس الائمة المعصومين".
من جانبه، يلفت الباحث والأكاديمي رائد صالح، إلى أن "ظاهرة اللطم الجماعي كشعيرة من شعائر الطف ظهرت في بغداد لأول مرة وسجل وقائعها المؤرخ ياقوت الحموي، في معجم الأدباء".
ويوضح صالح، لوكالة شفق نيوز، أن "الحموي سجل موقفاً لالتفاف الناس وتفاعلهم في أسواق بغداد مع قصيدة الناشئ، التي يقول فيها:
بمثلِ مصابي فيكم ليس يُسمعُ بني أحمدٍ قلبي لكم يتقطّعُ، وقد لطم الناشئ، لطماً عظيماً على وجهه عند قراءة هذه القصيدة وتبعه الناس كلهم".
ويواصل، "نزلت مظاهر العزاء الحسيني بشكل بارز في عهد البويهيين إلى الشوارع العامة ببغداد بعد عشرات السنين من التغييب والكبت والاختفاء، وأسرعت أقلام المؤرخين وكتّاب السيَر إلى تسجيل ما حدث في بغداد يوم عاشوراء".
ويعبّر اللطم بمجمله عن النزوع العاطفي والانساني بمختلف الازمان للتعبير عن الالم في حالات الوفيات، بحسب الباحثة في علم النفس مناهل الصالح.
وتوضح لوكالة شفق نيوز، أن "للطم ايجابيات كثيرة إذا تعدى مرحلة اللطم الخفيف أصبح جزعاً، فالجزع مؤذي، أما اللطم فهناك العديد من الايجابيات من منظور نفسي، حيث يوفر وسيلة لتفريغ المشاعر المكبوتة من حزن، ظلم، وقهر".
وتؤكد أن "اللطم يخلق شعوراً بالانتماء إلى الجماعة أو الموروث الديني أو الثقافي"، مضيفة أن "بعض الدراسات في علم النفس، تشير إلى أن الحركات الايقاعية الجماعية مثل اللطم والتصفيق أو حتى الرقص الصوفي، تساعد في تنظيم الجهاز العصبي وتقليل التوتر وتخلق نوعاً من الصفاء الذهني المؤقت".