قصة ترحال الأكثر غرابة في العالم.. عندما تهجر "أورامانات" السهول وتستوطن الغيوم صيفاً

شفق نيوز/ على حافة الربيع، حين تتفتح المدرجات الحجرية وتهجع الثلوج الأخيرة في كهوف جبال أورامانات، بمحافظة كرمنشاه الكوردية بإيران، تشدّ القرى رحالها ليس أفقياً كما تفعل معظم العشائر المحيطة، بل رأسياً.
وبعد 45 يوماً فقط من الدفء، يبدأ الترحال العشائري (بالكوردية: هوارنشينى) وهو تقليد هجرة موسمية فريد يُعرّف محلياً بأنه "رحلة من أسفل الجبل إلى أعلاه طلباً للماء".
صعود بدافع العطش
خلافاً لهجرات الرعاة المعتادة التي تتعقب المراعي، تتحرك قرى أورامانات بحثاً عن الينابيع نفسها. حين يتراجع منسوب "سر چم" وهو النبع الذي يتوسط القرى في أسفل الوادي، يُقرّر الأهالي بطيبة خاطر ترك مياهه للبساتين وتوجيه ماشيتهم وأطفالهم إلى الأعالي.
يستغرق الصعود الحاد، الذي يقطع ألفي متر من الارتفاع، ثلاث ساعات فقط، لكنه يبدل القرية بأكملها: البيوت تُقفل، والمسافر الوحيد الباقي هو "الميراب" المكلف بتقسيم مياه النبع على بساتين الرمان والجوز.
"كان أسلافنا يرون أن للأشجار نصيباً مساوياً لنصيب البشر"، يقول عزيز مصطفايي، مدير التراث الثقافي في باوه وباحث في التراث غير المادي، مضيفاً أن التقليد "يعود إلى ما لا يقل عن 40 ألف عام من التكيف مع الجبل".
في القمم، تحلّ الثلوج محلّ الأنهار، الرجال يحفرون "قم" وهي أوعية خشبية ضخمة من جذوع البلوط المجوفة، يكدّسون فيها الثلج ويغطّونه بأعشاب عطرية لإبطاء الذوبان. يذرف الجليد ماءه قطرة قطرة في حوض حجري تشرب منه الماشية. النساء، بدورهن، يقطعن قلوباً جليدية من كهوف شاهو، يضعنها مائلة على ثلاث صخور حتى ينساب الماء شيئاً فشيئاً إلى الجرار.
أما البيوت الصيفية، فمُشيّدة من الجبس بلا سقوف. عند الوصول يفرش الأهالي أسقفها بنبتة "تشنور" الزكية، ثم يجمعونها جافة آخر الموسم لتصبح علفاً شتوياً.
احتفاء بالبداية والنهاية
يُفتتح "هوارنشيني" بمهرجان "كومساي" أو "ميراب" الذي يعلن التنازل الرمزي عن مياه الينابيع للحقول. في أواخر أيلول، حين تعود الأمطار، تُختتم الرحلة بـ"مهرجان شكر الفاكهة": يعود الناس محمّلين بالتين البري والعنب الجبلي إلى بيوتٍ تعمر مجدداً.
لكن هذا الطقس الذي صنّفته اليونسكو عام 2021 ضمن التراث الثقافي العالمي لم يعد آمناً. في 2018 اكتمل سدّ داريان على بعد 25 كيلومتراً شمال باوه، فغمرت بحيرة السد بعض مسارات الهجرة وقطعت طرق الوصول إلى المرتفعات.
"منذ عقد لم نصعد كما كنا نفعل"، يقول منصور جعفري من قرية هَجيج، مشيراً إلى أن قريته تحوّلت إلى مقصد للسياحة البيئية بعد أن فقدت نمطها الزراعي القديم.
فاروق بابايي، من قرية نورياو، يضيف أن بعض المستوطنات العشائرية ازدهرت في مناطق لم يمسّها السد، بينما تراجعت قرى أخرى "عندما انقطعت عنها الدروب القديمة".
تقول السلطات الثقافية في كرمنشاه إنها تعمل على شق مسارات بديلة وحماية كهوف الثلج من الزوار غير المنضبطين. لكن مصطفايي يحذّر من أن "تزويد القرى بشبكات مياه لا يكفي إن أهملنا روح العلاقة بين الإنسان وطبيعته".
في هورامان، لا يُقاس الصيف بدرجات الحرارة ولا بمواعيد الحصاد، بل بزاوية الصعود، وكلما ارتفعت القرية، بدا إرثها أقرب إلى السماء وأشد حاجة إلى من يمدّ له جسور البقاء فوق المنحدرات.
همشهري/ ترجمة: وكالة شفق نيوز