التدفقات النقدية في البورصات العالمية من منظوري التنمية الاقتصادية والمعيار الشرعي

التدفقات النقدية في البورصات العالمية من منظوري التنمية الاقتصادية والمعيار الشرعي

شوان زنكَنة

2024-01-23T07:35:13+00:00

تبلغ القيمة السوقية الإجمالية لجميع البورصات العالمية الكبرى عام 2024م، حوالي 95 تريليون دولار، تتوزع 93٪ من هذه القيمة على ثلاث قارات: أمريكا الشمالية وآسيا وأوروبا، وفيما يلي 12 من أهم وأكبر البورصات في العالم:

1- بورصة نيويورك

2- بورصة ناسداك

3- بورصة شنغهاي

4- بورصة يورو نكست

5- بورصة طوكيو

6- بورصة هونغ كونغ

7- بورصة شينزين

8- بورصة لندن

9- بورصة بومباي

10- بورصة تورنتو

11- سوق الأسهم السعودي

12- بورصة فرانكفورت

* البيانات المالية للبورصات

1- بورصة نيويورك (NYSE)

تعد بورصة نيويورك للأوراق المالية (NYSE) أكبر وأهم بورصة في العالم، تأُسست في عام 1817م، ويقع مقرها الرئيسي في 11 وول ستريت/ مانهاتن، نيويورك، وفي 2021م، بلغت القيمة السوقية لبورصة نيويورك للأوراق المالية أكثر من 28.24 تريليون دولار، وتعمل تحت مظلتها أكثر من 2300 شركة متداولة، تغطي قطاعات الطاقة والتمويل والسلع الاستهلاكية والرعاية الصحية.. ويبلغ حجم التداول الشهري فيها 1.452 تريليون دولار، حسب بيانات عام 2020م.

2- بورصة ناسداك (NASDAQ)

تُعتبَرُ بورصة ناسداك (NASDAQ)، أو “الرابطة الوطنية للأسعار الآلية لتجار الأوراق المالية” ثاني أكبر وأهم بورصة في العالم من حيث القيمة السوقية، تأسست في عام 1971م، وتقع في نيويورك/ ميدان التايمز، وهي متخصصة في إدراج الشركات القائمة على التكنولوجيا في السوق الأمريكي فقط، وقيمتها السوقية تُقدَّر بحوالي 24.07 تريليون دولار في 2021م، وتندرج تحتها أكثر من 3800 شركة تكنولوجيا أمريكية، أما حجم تداولها الشهري فهو حوالي 1.262 تريليون دولار عام 2020م.

3- بورصة شنغهاي ((SSE

وهي ثالث أكبر بورصة عالمية، تأسست في مدينة شنغهاي/ الصين، عام 1990م، وتُقدَّر قيمتها السوقية بـ(7.77) تريليون دولار، وحجم تداولها الشهري يبلغ 536 تريليون دولار، وتندرج تحتها حوالي 1600 شركة متداولة، عام 2020م.

4- بورصة يورو نكست (Euronext)

هي نتاج اندماج مجموعة من البورصات الأوروبية عام 2000م، ومقرها الرئيسي في مدينة أمستردام، وتُعدُّ بورصة يورو نكست من أكبر بورصات أوروبا، وواحدة من أكبر أسواق المال العالمية، حيث تضم أكثر من 1300 شركة مدرجة، وتُقدَّر قيمتها السوقية بحوالي 7.38 تريليون دولار عام 2021، ويصل حجم التداول الشهري بها إلى 174 تريليون دولار.

5- بورصة طوكيو ((TSE

هي أكبر بورصة في اليابان، تأسست في عام 1878م، وتضم أكثر من 3500 شركة مدرجة، وتبلغ قيمتها السوقية عام 2021 أكثر من 6.68 تريليون دولار، وبذلك تُعدّ خامس أكبر وأهم بورصة في العالم، ويبلغ حجم التداول الشهري فيها 481 تريليون دولار.

6- بورصة هونغ كونغ ((SEHK

تأسست هذه البورصة في هونغ كونغ عام 1891م، وحملت اسم بورصة هونغ كونغ للأوراق المالية عام 1947م، وتُعتبَر من أكبر البورصات الآسيوية، إذ تعمل في ظلها أكثر من 2100 شركة تداول، حسب بيانات 2017م، وبلغت قيمتها السوقية أكثر من 5.82 تريليون دولار أمريكي، في عام 2021م، ويبلغ حجم التداول الشهري فيها نحو 182 تريليون دولار أمريكي.

7- بورصة شينزين ((SZSE

تأسست هذه البورصة عام 1987م، وتُعتبَر سابع أكبر بورصة في العالم، وتعمل لديها حوالي1300 شركة مدرجة، معظمها شركات حكومية، وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 5.76 تريليون دولار أمريكي.

8- بورصة لندن للأوراق المالية (LSE)

هي أقدم بورصة عالمية، إذ بدأت بالنشاط في السوق عام 1698م، تقع في لندن، وتنشط فيها أكثر من 3000 شركة مدرجة، وبلغت قيمتها السوقية حوالي 3.8 تريليون دولار، عام 2021م.

9- بورصة بومباي (BSE)

هي بورصة هندية، مركزها بومباي، تأسست عام 1875م، وتختص بسوق الأسهم، من خلال 5000 شركة مدرجة، وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 3.43 تريليون دولار.

10- بورصة تورينتو (TSX)

هي بورصة كندية، مقرها في تورنتو، وتمّ تأسيسها عام 1852م، تعمل فيها أكثر من 2207 شركة، تمارس التداول في الأوراق المالية، وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 3.32 تريليون دولار أمريكي.

11- البورصة السعودية (تداول)

تُعتبَر (تداول) أكبر سوق لرأس المال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تأسست عام 2007م، وتمارس203 شركة مساهمة عامة النشاط فيها حسب بيانات عام 2021م، وتبلغ قيمتها السوقية حوالي 2.63 تريليون دولار، عام 2022م.

12- بورصة فرانكفورت (FSE)

تُعدُّ هذه البورصة سوقا لتداول الأوراق المالية الألمانية، تأسست عام 1585م في فرانكفورت بألمانيا، كسوق للسلع، ومع مرور الزمن تحولت البورصة إلى سوق للأوراق المالية، وفي عام 2021م، وبلغت قيمتها السوقية أكثر من 2.52 تريليون دولار.

* تحليل البيانات المالية للبورصات

البيانات المالية للأسواق والبورصات العالمية تشير إلى قيمة سوقية لمجمل البورصات العالمية تلامس 100 تريليون دولار، في حين تشير بيانات حجم التداول الشهري في أكبر ست بورصات في العالم إلى أنه يتجاوز 4000 تريليون دولار.

ويُقصد بالقيمة السوقية للبورصة: مجموع الأسعار السوقية مضروب بعدد الأدوات الاستثمارية “الأوراق المالية والسلع والعملات” المتداولة فيها في نهاية فترة محددة.

كما ويُقصد بحجم التداول: العدد الكلي لكل من الأصول والأدوات الاستثمارية التي يمتلكها المضاربون كالأسهم، والسندات، والسلع، والعملات، التي يتم تداولها خلال فترة زمنية محددة، وما يعادلها من قيم نقدية، ويُعدُّ حجم التداول مقياسا لأداء البورصات وكفاءتها.

واضح من هذه الأرقام المَهُولة، أنّ هناك كمًّا هائلًا من النقد يتمُّ توظيفُه في المضاربات على الأدوات الاستثمارية في كافة الأسواق والبورصات العالمية، بهدف جَنْيِ الأرباح السريعة، رغم اتّصافِها بالكثير من المَخاطِر، من غير أن يُضيف هذا النقد قيمةً إنتاجية مُضافة إلى التنمية، تُساعدُ على زيادة معدّلات العَمالة، وتُخفِّفُ من وَطْأة الفَقر، وتُوفّرُ الغذاءَ ومستلزمات الحياة الكريمة، بل على العكس، فإن هذا التوظيفَ يساهمُ في رفع معدلات التضخّم، بسبب زيادة الكتلة النقدية التي تَتولَّد من الارتفاع المُطَّرِد، والمُستمرِّ لمُؤشّرات البورصات، بشكلٍ عامٍّ. كما وتدفعُ شهيةَ الإرباء السريع، إلى السعي الحثيث للتلاعُب في العرض والطلب في الأسواق، من قبل فئاتٍ مُتنفِّذة، مُحدَّدة، مما يؤدّي، وبشكلٍ مباشر، إلى الخَلل في أسعار أسهم الشركات، وبالتالي إلى خللٍ في أوضاعها الحقيقية، صعودًا غيرَ مُبرَّر، أو هبوطًا غيرَ مستحَقٍّ، ويؤدّي كذلك، إلى الخلل في أسعار السّلع، وأسعار العُمْلات، وقد تضرَّرت دولٌ كثيرة من هذه المضاربات المُفتعَلة، ناهيك عن الخسائر الفادحة التي ستلاحق صغارَ المضاربين، أو قليلي الخبرة والتجربة. والأدهى من ذلك، أن هذه البورصات، ومتنفذيها من المضاربين الكبار، ضغطوا، بشدة، على حكوماتهم، في أوروبا وأمريكا، بالأخص، لمنعها من رفع أسعار الفوائد بنسبٍ مرتفعة، حينما ارتفعت معدلات التضخّم في تلك الدول، مخافةَ انهيار البورصات بسبب هروب رؤوس الأموال المستثمَرة فيها باتجاه التوظيف في الفوائد والسندات، وبسبب هذه الضغوط، لم تتمكن أوروبا وأمريكا من السيطرة على التضخّم لحدّ الآن.. والذي قام بدفع ضريبة هذه الضغوط الجشعة، هو المواطن، ليس في أوروبا وأمريكا فحسب، بل وفي العالم كلِّه.

والسؤال الوجيه هنا هو: متى ستقومُ الحكوماتُ في العالم، بوضع قوانين، وأنظمة، ولوائح، وتتّخذُ القراراتِ الصارمةَ، لضبط وظيفتَي النقد التي أوجدَهما الواقعُ الاقتصادي للرأسمالية الحديثة، ونَظَّرَ لهما كل من جون ماينارد كينز، وميلتون فريدمان؟

فقد أضاف كينيز، مع بدايات القرن الماضي، وظيفةً رابعة إلى وظائف النقود الثلاث: قِيَمُ الأشياء، ومستودَعُ القيمة، ووسيلةُ التبادل، في نظريّتِه النقدية، وهي وظيفة “المضاربة”، إذ اعتبر أنه هناك علاقة بين الطلب على الكتلة النقدية، وأسعار فوائد السندات الحكومية التي كانت قد بدأت بالرّواج في تلك الفترة، واستقطبت مُدَّخَرات الناس.

ثم، وبعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الخلل في النظرية النقدية الكينزية، وتشكُّل العديد من أدوات الاستثمار، جنبا إلى جنب مع فوائد السندات، وانتشار بورصات الأوراق المالية، وتعدُّدها، لتشمل السّلع والعملات، وشمول أنشطتها، لتغطي شرائح اجتماعية واسعة، مما أدّى إلى تعدُّد فُرص الاستثمار، وهو ما حَدا بميلتون فريدمان إلى توصيف وظيفةٍ خامسة للنقود، وهي: وظيفة “تَحيُّن الفُرَص”، وذلك من خلال نظريته النقدية الحديثة.

فكلا النظريتين تعتبران أن المضاربةَ، وتَحيُّنَ الفرصِ، وهو المضاربة من خلال تحيّن الفرصة الكفؤة، واختيار الأداة الاستثمارية الأكثر جَنْيًا للأرباح، هما وظيفتان حديثتان للنقود، جنبا إلى جنب مع الوظائف التأريخية لها، وليست هاتان الوظيفتان من إيجاد العالِمَينِ الاقتصادِيَّينِ، وإنما هما نتاج إفرازات الثورة الصناعية من جهة، وسلسلة الحروب التي عانت منها أوروبا في القرون الثلاثة الماضية من جهة أخرى، الأمر الذي خلق معه طلبًا على التمويل، واستجابةً من الكتلة النقدية عليه، فقام العالِمان برصد الأحداث الاقتصادية التي فسراها من خلال نظريَّتيهما النقدية.

كافّةُ الأنشطة والتعاملات في البورصات، وتوظيفُ الكتلة النقدية في التعامل بالعملات المشفرة، والمقامرةُ بالنقد، من خلال ألعاب اللوتو، والتوتو، واليانصيب، والألعاب الإلكترونية، وغيرها، إنما هي هدرٌ للقدرة الشرائية، وخلقٌ لحالة تضخمٍ مزمنةٍ، وملازمةٍ للاقتصاد العالمي، وضياعٌ هائل لإمكانات مالية، كان يمكن أن تؤدي دورا تنمويا عظيما، فيما لو تمَّ توجيهها للإنتاج، والتطوير، وتحقيق العدالة الاجتماعية، مع المحافظة على جَني الأرباح وتعظيم الثروة.

وبناءً على ما سبق، يجب على كافّة الحكومات في العالم منعُ كلِّ أشكال المضاربات، أو فرضُ القوانين والأنظمة واللوائح، لتحجيمِ دور المضاربات في البورصات، والاقتصارِ على الأنشطة التجارية الحقيقية فيها، ودفعِ الكتلة النقدية الهائلة، أو جزءٍ منها إلى التوظيف في عمليات تنموية شاملة، وذلك، لتخفيف وطأة التضخم، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتخفيف الديون، وزيادة الإنتاج، ورفع معدلات الوظائف، وتخفيف حدّة الفقر والجوع.

المعيار الشرعي لتوظيف النقد

وفي الوقت الذي حرَّم الشارعُ وظيفتَي المضاربة، وتحيُّن الفرص، بكافة أشكالها، أضاف وظيفتين للنقد بدلا عنهما، وذلك لتحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية، بالتزامن مع الإنتاج والتنمية وجَني الأرباح، وهما: وظيفة ربحية، من خلال التنمية والإنتاج، ووظيفة لا ربحية، من خلال إعادة توزيع العائد من الإنتاج على شكل زكاة وصدقات وإعانات، ويمكن الاستدلال بالنصوص الشرعية التالية لفهم وجهة النظر الشرعية للنقد وتوظيفه.

ففي مجال الاستدلال لبيان وظيفة النقد الربحية من خلال التنمية والإنتاج ومنع المضاربة، نورد النصوص التالية:

1- روى طاووسُ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم نَهى أنْ يبيعَ الرّجلُ طعامًا حتَّى يَستَوفِيَهُ. قلتُ لابنِ عبَّاسٍ: كيفَ ذاكَ؟ قالَ: ذاكَ دَراهِمُ بِدَراهِمَ والطّعامُ مُرْجَأٌ. والْمُرْجَأُ يعني الْمُؤَخَّر. (البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كراتشي: جمعية البشرى، 2016م، ج2، 1032)

2- وروى ابنُ المبارك عن حَكم بن زُريق عن سعيدِ بن الْمُسيّب، قال سألتُه عن رجلٍ باعَ طعامًا من رَجلٍ إلى أجَلٍ، فأرادَ الذي اشتَرى الطّعامَ أنْ يَبيعَه بنقدٍ من الذي باعَهُ منهُ، فقالَ هو رِبًا… فَسمّى سعيدُ ابنُ المسيّب، ذلك رِبًا، وقد رُويَ النّهْيُ عن ذلك، عن ابنِ عبّاسٍ، والقاسمِ بن محمد، ومجاهدٍ، وإبراهيمَ، والشّعْبيِّ. (الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1992م، ج2، 185)

3- وعن ابنِ عُمَرَ قال: اِبتَعْتُ زَيتًا بالسّوقِ، فلما استَوجَبْتُهُ، لقِيَنِي رجلٌ فأعطاني به رِبحًا حسَنًا، فأردْتُ أنْ أضرِبَ على يدِهِ، فأخذَ رجلٌ من خَلفي بِذِراعي، فالتَفَتُّ إليهِ، فإذا هو زيدُ بنُ ثابِت، فقالَ: لا تَبِعْهُ حيثُ ابتَعْتَهُ حتّى تَحُوزَهُ إلى رَحْلِكَ، فإنّ رَسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم نَهانا أنْ نَبيعَ السِّلَعَ حيثُ تًبْتَاعُ، حتّى تَحوزَها التُّجَّارُ إلى رِحَالِهم. (الطحاوي، أحمد بن محمد، شرح معاني الآثار، لرياض: عالم الكتب، 1994م، ج4، 38-39)

4- وعن عبدِ الله بنِ عُمَرَ أنه قالَ: كنّا في زمانِ رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم، نَبْتاعُ الطّعامَ، فَيبعثُ علينا من يأمُرُنا بانتقالِه من المكان الذي ابْتَعناهُ فيه، إلى مكانٍ سِواه، قبلَ أنْ نَبيعَهُ. (ابن أنس، مالك، الموطّأ، ط2، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997م، ج2، 167-168)

5- وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ قال: لقد رأيتُ النّاسَ في عَهدِ النَّبِيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم يَبْتاعونَ جُزافًا، يعني الطَّعامَ، يُضرَبُونَ أنْ يَبيعُوهُ في مَكانِهم، حتّى يُؤوُوه إلى رِحَالِهم. (البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كراتشي: جمعية البشرى، 2016م، ج2، 1033)

6- وعن ابنِ عبّاسٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم: “مَنْ ابْتَاعَ طعَامًا فلا يَبِعْهُ حتّى يَقْبِضَهُ”. قال ابنُ عبّاسٍ: وأَحْسِبُ كُلَّ شَيءٍ بمَنزِلَةِ الطَّعامِ. (النيسابوري، مسلم بن الحجّاج، صحيح مسلم بشرح النووي، القاهرة: مؤسسة قرطبة، 1994م، ج10، 238)

7- وعن مالك أنه بلغَهُ أن صُكوكًا خرجتْ للناس في زمانِ مروانِ بنِ الحَكم من طعامِ الجَارِ، تبايعَ الناسُ تلك الصُّكوكَ بينهم، قبل أن يَستَوفُوها. فدخلَ زيدُ بنُ ثابِت ورجلٌ من أصحاب رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم على مروانِ بن الحكم، قالا: أَ تُحِلُّ بيعَ الرِّبا يا مروان؟ فقال: أعوذُ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصُّكوكُ تبَايَعها الناسُ ثم باعُوها قبل أن يَستَوفوها، فبعثَ مروان الحرسَ يَتبعونَها. يَنزِعونها من أيدي الناس ويَردُّونها إلى أهلِها. (ابن أنس، مالك، الموطأ، ط2، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997م، ج2، 168)

8- وعن حَكيمِ بنِ حِزَامٍ: قال: سألتُ رسولَ الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، فقلتُ: يَأتِيني الرَّجلُ، فَيسألُني من البَيعِ ما ليسَ عِندي، آبْتاعُ له من السُّوقِ، ثم أبيعُهُ مِنهُ؟ قال: “لا تَبِعْ ما ليسَ عِندَك”. وعن حَكيمِ بنِ حِزامٍ، قال: نَهانِي رَسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم أنْ أَبيعَ ما ليسَ عِندي. (الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ط1، بيروت: دار التأصيل، 2014م، ج2، 403)   

تشيرُ هذه الرواياتُ، بكل وضوحٍ، إلى طبيعة البيوع، وتَعامُلات الصحابةِ فيها، والأحكامِ التي سُنَّتْ بخصوصِها في عهد الرّسالة، فقد نَهى الرَّسولُ صلّى اللهُ عليه وسلّم عن بيعِ ما ليس في مُلْكِ البائعِ، وحرصَ على إجراء البيوع الحقيقيّة، ومنعَ الصُوريّة منها، وأكّدَ على استهداف السّلَعِ كافّة، (الطعام وغيره، كما هو واضحٌ من النّصوص)، وقبضِها وحِيازتِها قبلَ التّصرف فيها، ومنعَ التجّارَ عن بيع ما اشتَروهُ من مكانٍ قبلَ نقلِها إلى رِحَالِهم، وأمرَ بضربِ الْمُخالِف، وذلك لِتَحقيقِ استهداف السّلعةِ، وحِيازتِها، ومنعَ تَحوُّلَ أماكنِ استقبال الرُّكْبانِ إلى بُورصَاتِ مُضارَبةٍ لتحقيقِ أرباحٍ فقط، جِراء البيوعِ الصُّورية للسِّلَعِ، والتي هي، في الحَقيقةِ، بَيعٌ للنقْدِ بالنقْدِ بِزيادةٍ، من خلال البيعِ الصُّوري للسّلعة، كما وأشارتِ الرّواياتُ أيضًا إلى أنّ هذه البُيوعَ هي بُيوعٌ رِبويّةٌ مُحرَّمةٌ.

وفي مجال الاستدلال لبيان وظيفة النقد اللاربحية، من خلال إعادة توزيع عوائد الإنتاج، كالزكاة والصدقات والإعانات، نورد النصوص التالية:

1- قال تعالى: “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ * وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ * إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بصير” (البقرة: 110)

2- وقال تعالى: “إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ * وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ * وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” (البقرة: 271)

3- وقال تعالى: “قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ * وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ * وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ” (سورة سبأ: 39)

4- وعَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَهُوَ يُسْأَلُ، عَنِ الكَنْزِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ. (موطأ مالك في كتاب الزكاة، ما جاء في الكنز، (695)، (348/1). صحيح الإسناد)

5- عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا”. (صحيح البخاري في كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، (73)، 25/1)

6- عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ قَالَ: كُنَّا نُسَمَّى فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّمَاسِرَةَ، فَمَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ. فَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ الْحَلِفُ، وَاللَّغْوُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ”. (سنن ابن ماجه في كتاب التجارات، باب التوقِّي في التجارة، (2145)، (514/3). الحديث صحيح)

7- عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كانَ تاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فإذا رَأى مُعْسِرًا قالَ لِفِتيانِهِ: تَجاوَزُوا عَنهُ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجاوَزَ عَنَّا. فَتَجاوَزَ اللهُ عَنهُ”. (أحمد بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط1، الرياض: دار طيبة، 2005م، ج5، 533)

تؤكد هذه النصوصُ، وبوضوحٍ، أن الشارعَ وضع وظيفةً لا ربحية للنقد، لكي تؤدّيَ دورَ السَّادِّ للعجز في توزيع عوائد الإنتاج، الذي يأتي، عادةً، غيرَ مستوفٍ لاستحقاق بعض عناصر الإنتاج، كعوائد العمال، مثلا، التي تكون في العادة غيرَ كافيةٍ لتحقيق حياة كريمة.. لذلك، فرضَ الشارعُ، من خلال هذه الوظيفة، مَنافذَ لصرف النقد، تتحقّقُ بها العدالةُ الاجتماعيةُ في الدنيا، والثوابُ الأخرويُّ، كربحٍ مؤجّل، عائدٍ على النقد، إذ تكتملُ بهذا الفرض دورةُ إعمارِ الأرض في ظل العبودية لله، وتتناسقُ التنميةُ مع المبادئ الإنسانية، التي تعوزُها عمارةُ الأرض، والطبيعةُ البشرية.         

الخاتمة

كانت النقود، حتى بدايات الثورة الصناعية (القرن الثامن عشر الميلادي)، وإصدار السندات الحكومية من قِبَلِ بنك إنجلترا عام 1693م، لتمويل الحرب ضد فرنسا، تموّل اقتصاد حقيقيا، تنمويا، إذ كانت توظَّفُ للمبادلة بالسلع والخدمات والمنافع، بهدف الحيازة، والانتفاع، وجني الأرباح والنمو الاقتصادي، ولكن، وبعد رواج السندات الحكومية، وإصدار الأسهم للشركات، وظهور الأوراق المالية، وتوسع التجارة العالمية، والتعامل مع العديد من النقود العالمية، تأسست البورصات العالمية، وتوسعت التي كانت ناشطة، توجهت الكتلة النقدية للمضاربة وتحين الفرص بين هذه الأدوات الاستثمارية، وخرج الاقتصاد من مساره الحقيقي، في التنمية والإنتاج، إلى المضاربات التي لا تستهدف إلا الربح والإرباء السريع، فتوسع الاقتصاد سريعا، بالتوسع السريع للكتلة النقدية، وزيادتها المفرطة، من غير إضافة قيمة حقيقية في الاقتصاد العالمي، فتسارعت وتيرة التضخم، قياسا بمعدلات التضخم الضئيلة جدا في الاقتصادات الحقيقية السابقة، واتسعت هوة الفارق الطبقي، وازداد انتشار الفقر والجوع، وارتفعت معدلات البطالة، إضافة إلى ارتفاع نسب الديون، في الاقتصادين الكلي والجزئي.

وكان لوظيفتي النقد الحديثتين، المضاربة وتَحيُّن الفُرص، دور مباشر، وكبير في اصطناع تلك الأزمات، المذكورة آنفا، والتي يعاني منها الاقتصاد العالمي.. وقد حان الوقت للانتباه إلى المعيار الشرعي الذي وضعه الشارع، في الكتاب والسنة، والذي حدّد فيه وظيفتين بديلتين لضبط دور النقد في التنمية وإعمار الأرض، وفق مهمة الخلافة التي حمّلها الشارعُ الإنسانَ، وهما: الوظيفة الربحية للنقد لجني الأرباح ضمن العملية التنموية الحقيقية، والوظيفة اللاربحية للنقد لتحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية.

أوصي كافة الحكومات بإصدار القوانين الكفيلة بضبط النقد وفق المعيار الشرعي، والإنساني، وأدعو كافة المراجع والمجامع العلمية الشرعية، إلى إجراء البحوث المستفيضة في الدور المعياري الشرعي للنقد في الاقتصاد العالمي، وأوصي البشرية جمعاء إلى ترك المضاربات، والمقامرات، والسعي إلى توظيف النقود والمُدَّخرات في التنمية الاقتصادية الشاملة.

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon